الجزائر

في ذكرى أستاذي قال لي مباهيا:



في ذكرى أستاذي                                    قال لي مباهيا:
- كنت أحفظ أكثر من مائة كلمة في اليوم الواحد، وكنت „أشطر“ منه في مجال تعلم اللغة الإنجليزية. وقد يعود ذلك إلى أنني كنت أعرف اللغة الفرنسية معرفة جيدة، وأعرف اللاتينية واليونانية.
هذا الكلام هو لأستاذي الجليل، الصديق سعدي، الذي كان يدرس لنا فن الترجمة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة الجزائر، ما بين 1966 و1969. أما موضوع الحديث فكان مداره حول علاقته بالشاعر الحضرمي، علي أحمد باكثير الذي استوطن القاهرة وصار أحد أكبر أدبائها وكتابها في مجال المسرح باللغة العربية الفصيحة.
أضاف أستاذي:
- وصلت إلى القاهرة عام 1933 قادما إليها من تونس حيث كنت أدرس في جامع الزيتونة، وقبل ذلك، كنت انتقلت، عام 1927، من مسقط رأسي بمدينة „تبسة“
وكنت بطبيعة الحال مبهورا بعلمه الغزير وثقافته الواسعة. وما أكثر ما قلت بيني وبين نفسي: هذا الإنسان تنطبق عليه الصورة البلاغية المتواترة في تاريخ الأدب العربي: „رأيت بحرا في المسجد“، أي أبصرت بعالم في المسجد. إذا تحدث في شؤون النحو العربي وقواعده، شد إليه أنظار الطلبة كلهم. وإذا خاض غمار الفلسفة، صال فيها وجال على هواه كأستاذ مقتدر لا يشق له غبار. أما إذا ضرب الأمثلة والشواهد بالشعر العربي فكان فارسا ينال قصب السبق على الدوام.
ولعل أكثر ما كان يسحرني فيه إنما هو تلك الشذرات الحميمية التي يوردها في أثناء حديثه إلي عن عباس محمود العقاد وطه حسين وأحمد أمين والمازني والشيخ أمين الخولي، بعل الدكتورة عائشة عبد الرحمن المعروفة ب"بنت الشاطى“ء في العالم العربي والإسلامي.
وإلى جانب ذلك، يتحدث إلي عن هذا الأديب أو ذاك، أو هذا الدكتور أو ذاك، ويقول بتواضع جم: لقد كنت وراء أعمالهم الجامعية! ولا يفوته أن يحدثني عن „أم كلثوم“ التي كان يشهد حفلاتها الشهرية منذ أواسط الثلاثينات من القرن الفائت، وعن „بتهوفن“ وعن الموسيقى العالمية.
وكان آخر كتاب استلمته من يديه الكريمتين هو كتاب „المأدبة“ لأفلاطون. قال لي يومها:
- تمتع بالفكر الراقي، يا بني!
أذكر أنني سألته ذات يوم عن المعاني التي تنطوي عليها كلمة „ضعف“ في اللغة العربية، فأجابني إجابة مبتسرة، لكنه جاءني في اليوم التالي بالجزء الذي يفصل هذه الكلمة التفصيل كله في قاموس „لسان العرب“، ونصحني باقتناء هذه الموسوعة اللغوية التي لا نظير لها في الأدب العربي كله. وعندما اقتنيتها في عشرين جزءا، قال لي بالحرف الواحد:
- لقد بلغت المجد كله، يا بني!
ثم نصحني باقتناء قاموس „أساس البلاغة“ للزمخشري، ذلك الذي وضع مقدمته البهيجة الأستاذ أمين الخولي.
وعندما زرته في بيته بشارع العربي بن مهيدي في شهر فبراير من عام 1970، وجدته قد دخل في حديث طويل مع أستاذين جاءاه من جامعة قسنطينة. وأغلب الظن أنهما كانا يدرسان الفلسفة في هذه الجامعة. قلت له: سأزورك مرة أخرى، فما كان منه سوى أن أخذني إلى المطبخ، وتناول علبة كبيرة من مربى المشمس، وناولني ملعقة بعد أن فتح العلبة وقال:
- خذ، يا بني! لا كلفة فيما بيننا. إنك في بيت علم!
وقد كنت فعلا في بيت علم حقا وصدقا فالحيطان كلها مغطاة بالكتب من الأسفل إلى الأعلى. أضاف قائلا:
- هذا بيت إنسان، يا بني، تزوج العلم والكتب!
وبعد شهرين من ذلك اللقاء، انتقل إلى رحمة الله.
ألا ما أشد افتقارنا إلى أمثال هذا العالم المتواضع الجليل!


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)