الجزائر

فضاءات نقدية



فضاءات نقدية
الكتابة عن عالم مجبول بطينة تاريخ الجزائر الثقافي وتراثها الروحي
في روايته الموسومة "سفر السالكين" الصادرة في صيف سنة 2014،يواصل الأديب والباحث الجزائري محمد مفلاح مغامرة الكتابة عن عالم مجبول بطينة تاريخ الجزائر الثقافي وتراثها الروحي، وبعيدا عن الزخرفة الكلامية واللغة الحوشية التي أصبحت ميزة بعض الروايات. 
وتعد هذه الرواية امتدادا لأعماله الإبداعية الأخيرة المتميزة بموضوعاتها كالتصوف والشعر الشعبي والطرب البدوي والفروسية ووعدات الأولياء،ومنها روايته الموسومة "عائلة من فخار" (المنشورة سنة 2008) التي قطع فيها "لخضر ولد الفخار" علاقته بعائلته الصغيرة ومحيطه الاجتماعي،وقرر الانخراط في طريق التصوف،وكذلك روايته التاريخية " شعلة المايدة" المشحونة بروح التراث ونفحات التصوف في العهد العثماني. 
وفي رواية "سفر السالكين" التي كانت بعد سنوات من تنقل الروائي بين معالم منطقة غليزان وضواحيها،نلتقي بشخص "الهاشمي المشلح" الذي يقدم لنا آراءه القلقة وهواجس إغرابه وخواطره الغريبة في واقعه المر،والهامشي المشلح هو موظف أحال نفسه على التقاعد المسبق بعدما سئم العمل مع زملائه المقرفين، ولكنه بعد تقاعده يجد نفسه يعيش فراغا مخيفا، غير أن احتكاكه بالشيخ "بصافي المايدي" المعلم المتقاعد جعله ينخرط في جو الشعر الشعبي والطرب البدوي،ثم ما يلبث أن مال إلى عالم التصوف متأثرا بسلوك الخضار "الحاج العربي الشيلي" المنتمي إلى الطريقة الخضرية،وبمرور الوقت يستهويه التصوف أكثر فينكب على مطالعة كتب أعلامه،ثم ينتهي به مساره الجديد إلى عالم السياحة في أرض الله وزيارة الأولياء ومعالمهم،وأخيرا يلاحق حلما عجيبا إلى غاية ضياعه في البراري ثم تحوله إلى طائر مغرد في سماء صافية بعيدا عن صخب المدينة.
وإلى جانب الهاشمي المشلح،هذه الشخصية التي تبدو محورية،نجد ستة متقاعدين آراؤهم مختلفة، ومواقفهم متناقضة إلى حد الصراع،ولكن الصداقة الجميلة كانت تجمع بين قلوبهم الطيبة وفي هذا الجو الحميمي كانوا يقضون بعض الأوقات حول مقعد الغرانيت بساحة البلدية الصاخب. وهم:
"بصافي المايِدي" وهو "ميسرو" مجالس مقعد القرانيت،يحب الشعر الشعبي ويهوى الحياة، 
"الحاج العربي الشيلي" رجل هادئ، وجد سعادته في انتمائه إلى الطريقة الصوفية، "هواري البني" المناضل اليساري ورغم التحولات الجارية في البلاد فهو لازال يحلم بعودة "تشي غفارة"، والتيار الذي يؤمن به.
"رابح اللمة" السلفي الذي يرغب في تجديد حياته بالزواج من مطلقة جميلة، ولكنه ظل متخوفا من زوجته. "تهامي الفارس" الذي أفقدته سقطة من على حصانه لذة اللعب في ميدان الفروسية، 
و"عاشور الزكري" وهو معلم متقاعد يحاول كتابة تاريخ عائلته العريقة التي كان لها دور في عهد سابق ولكنه فشل في تحقيق مشروعه فيحرق أوراقه في ساحة المدينة.
ونلتقي بشخوص آخرين ولو بصورة سريعة وقد كان محمد مفلاح قد تذكرهم في روايات منهم عمار الحر (الوساوس الغريبة)، وجعفر النوري (همس الرمادي)..وبالرغم من انقطاع هؤلاء الرجال السبعة (اختيار الرقم له معنى عميق) عن الحياة المهنية إلا أن اهتمامهم بالواقع الصاخب يظل محل مجالسهم اليومية، ويعبرون عنهم بصراحة. وتنتهي حيواتهم في أجواء تبدو حزينة، ولكنها في عمقها هي البدايات التي تعلن عن سفرهم إلى صفاء السماء وهدوئها.. وغلاف الرواية يعبر عن ذلك.. إذ نرى عليه سبعة طيور بيضاء فوق أرض قاحلة. غليزان،كالعادة في روايات محمد مفلاح،حاضرة بقوة في هذا العمل الإبداعي، وعبر هؤلاء الشخوص المرتبطين بالمكان الذي سكنهم حتى صار منه. 
أما عنوان الرواية المكتوب بالأحمر فهو يحتاج إلى قراءة متأنية فهل هو "سَفر" أو "سِفر"؟ ويبدو لي الروائي محمد مفلاح أن تعمد عدم تشكيل هذه الكلمة فاتحا المجال لتأويل القراء. أما الغلاف فنشاهد فيه رجلا مجهولا على الكرة الأرضية التي أصابها الجفاف، وهو يتأمل في سماء يسبح في زرقتها سبعة طيور بيضاء، ولا ريب إنهم الراحلون السبعة الذين اهدى إليهم الأديب عمله الإبداعي. 
تعد رواية "سفر السالكين" إضافة جديدة في مسار محمد مفلاح الذي أصبحت له بصماته المتميزة في السرد الروائي الجزائري، متتبعا خطى أدباء عرب غامروا بالكتابة عن هذا العالم ومنهم الطاهر وطار في رواياته الأخيرة، وجمال الغيطاني في جل أعماله، ويوسف زيدان في روايته "عزازيل".
وفي نهاية هذه الوقفة تجدر الإشارة إلى جهود الأديب محمد مفلاح في البحث والنقيب في الذاكرة الجزائرية وتدوين بعض المحطات في تراثنا الروحي وتاريخنا الثقافي. وتشهد على ذلك أبحاثه المنشورة مؤرخا ومنها "تاريخ الطريقة الرحمانية بمنطقة غليزان".وفي انتظار روايته الأخيرة الموسومة "الدال"، التي تعتبر جزءا آخر من الثلاثية التي حدثنا عنها محمد مفلاح في حوارنا معه، سنعدك بقراءتنا أخرى لتقديم عرض عن محتواها. 





سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)