الجزائر

فخامة الشعب: المرجع والدلالة



رافقت الحراك الجزائري، بداية من 22 فبراير 2019، مجموعة متنوعة من الشعارات التي عرفت متغيرات تصاعدية ذات علاقة سببية بالمحيط الخارجي وتموّجاته. لقد كانت موحدة إلى حد كبير، ومتواترة بشكل متجاور لدى أغلب المتظاهرين، على تباين انتماءاتهم الاجتماعية والمهنية وفئاتهم العمرية والجنسية: الشباب، الصغار، الشيوخ، المحامون، القضاة، النقابيون، الأساتذة، البطالون، الإطارات، المثقفون، الأكاديميون.نلاحظ، تأسيسا على المظهر العام للشعار، غياب البعد الأيديولوجي للكتابات التي ميزت مسيرات ثورة الابتسامة في مختلف المدن الجزائرية، مع انمحاء كلي للاستثمارات العقائدية والحزبية والثقافية والأدبية التي عادة ما كانت تلتصق بالشعرات المكرسة، أو تسهم في بلورتها إلى حد كبير، كما حصل في السبعينيات مع الثورات الثلاث وحملات التطوع، وفي عهد الحزب الواحد، وفي التسعينيات مع الإسلاميين الذين أنتجوا شعاراتهم وأهازيجهم الخاصة بهم، وفي العقدين الأخيرين (2009 2019) عندما كان الشعار مرآة لتوجه السياسة، ولعبادة الصنم، ثم الإطار، ثمّ الشبح لاحقا.
انطلقت الشعارات المؤسسة، أو الشعارات المؤطرة، من مرتكزات واضحة المعالم: لا للعهدة الخامسة (تفعيل المادة 102 من الدستور) كرفض بيّن للعبث العام الذي ميز البلد في ظل غياب الرئيس لمدة ست سنين، ثم انتقلت إلى: لا للتمديد، كنوع من الرفض للعبث بالدستور من قبل أطراف في السلطة الخفية، ثم إلى مرحلة: لا للباءات الأربعة التي ترمز لبقايا النظام الفاسد، أو للعصابة الحاكمة والقوى غير الدستورية (الدولة العميقة)، كماورد في بعض الاستعمالات التي ركزت على المادتين 107، 108) اللتين تسندان السلطة للشعب وحده، دون غيره من المتلاعبين بمقدرات الأمة التي ظلت رهينة الممارسات الاستبدادية.
كان هناك، مع الأيام، ومع اكتساب التجربة في التنظيم والتأطير والإبداع، استغلال لشعارات تحتية ولمرجعيات ثقافية وشعرية، أو دستورية غدت سندا للحراك وموجها قانونيا يمنحه دعامة متينة لتقوية خطابه المخصوص ومحاولة تقنينه بناء على مكاسب معرفية جديدة. ربما لعبت بعض النقاشات التلفزيونية دورا مهما في إضاءة الطريق بشكل أكثر وضوحا. لكنّ هذه النخبة (المشكلة من رجال القانون والإعلاميين والمثقفين والجامعيين وغيرهم)، أو تلك التي ستهتم لاحقا بالظاهرة، كتابع أو منفذ لما يمليه الشارع، لم تلعب أيّ دور في إنتاج الشعار لأنها فوجئت بتسارع وتيرة الأحداث المباغتة.
لقد كانت، في واقع الأمر، امتدادا للشارع المنتج لمنجزه الخاص بطريقة تفكيره، ولسان حاله، وذلك رغما عنها من حيث إنها ظلت متفرجة، أو ساكتة، قبل أن يباغتها الحراك بمطالبه وأهازيجه: هي هو، كي تروح العصابة نولو لا بأس، البلاد بلادنا ونديروراينا، وأناشيده وأغانيه، المبتكرة أو المنقولةفي بعض الحالات: نشيد قسما، من جبالنا، وطني وطني، وهي مرجعيات موجهة ستلعب دورا مهما في توحيد المتظاهرين الذين جمعتهم الراية الوطنية المنتشرة في كل مكان، وبمختلف الأحجام والأشكال.
لم تستطع النخب، من منظورنا، تأطير الشارع بإبداعاتها المتقدمة وأفكارها وقصائدها لأنها اشتغلت، منذ سنين كثيرة، مستقلة عنه، وبدل أن تؤثر فيه، ليغدو تابعا لها كمستقبل لخطابها الراقي، وكمستفيد من الوعي المكتسب من القراءات، تمادت في التجريد، ثمانمحت فيه وأصبحت ظلا من ظلاله الباهتة، أي نسخة مشوّهة، على عكس ما كانت عليه في السبعينيات عندما احتلت المقدمة وشكلت ثورة فكرية وتنويرية مرتبطة بمحيطها الخارجي، وحاضرة بشكل جليّ: أشير ها هنا إلى المثقفين اليساريين على سبيل التمثيل.
شعارات أساسية: يمكننا أن نذكر، في هذا السياق، بعض الشعارات التي بدت مفصلية في ثورة الابتسامة، وذات توجه مستقل عن مختلف المؤثرات الشعرية والسردية والثقافية: سلمية سلمية مطالبنا شرعية، لا نريد لا نريد بوتفليقة والسعيد (شقيق الرئيس)، راح الكادر (الإطار كرمز لهيمنة صورة الرئيس المخلوع) بقات المسامير، تروحوا قاع (كلكم)، كلّ يوم مسيرة والله مانا حابسين (لن نتوقف)، فخامة الشعب. جيش، شعب خاوةخاوة (إخوة إخوة)، الثورة فكرة، والفكرة لا تموت، أحفاد ابن باديس يرفضون أن يحكمهم أبناء باريس. صامدون صامدون للنظام رافضون، أعيدوا لنا الجزائر، العصابة مكانها الحبس، العدل أساس الحكم، تحرك يا القاضي، الشعب ماشي (ليس) راضي، سلمية أقوى من الرصاص، لا للحلول الخارجية (إشارة إلى محاولة تدويل الثورة)، الجيش والشعب كالبنيان المرصوص، الجيش الشعبي الوطني حامي الشعب والوطن، كليتو (أكلتم) البلاد ياسراقين، الشعب أمامكم والسجن وراءكم، رحيلكم هو مطلبنا.
كما تمّ التأسيس، في حالات أخرى كثيرة، على بعض الأغاني الشعبية المتداولة في الموروث المحلي، وفي الموروث المغاربي، سواء بالنقل الحرفي للمنجز القائم، أو بالاستثمار في الكلمات عن طريق التحريف، سواء بالحذف أو بالإضافة، ومن ذلك أغنية سيدي منصور التي أصبحت: الله الله يا بابا جينا نحّيو (نقتلع) العصابة، وغيرها من النصوص التي غدت لازمة مقوية لمسيراتالمتظاهرين الملتفين حول المطالب نفسها، دون انحرافات عن المطالب الجوهرية التي تهمّ الجميع.
لقد غابت عن الحراك كلّ النعرات والأيديولوجيات والحالات الصدامية الزائفةلتحلّ محلها المواطنة كقيمة جوهرية مؤطرة للشعارات المبتكرة،أوالمنقولة على حد سواء، وذاك ما ينقص النخبة الحالية التي راهنت على الاختلافات المجهرية، ليست كقوى منتجة للتغيير، وللمعنى، بل كتوجهات هامشية، فصلية، وغير مؤهلة، رغم معرفتها، للالتفاف حول القضايا الفعلية التي تهمّ الأمة، وليس حول قضايا الجماعات والتكتلات الثقافية والحزبية الطاردة لأشكال التوافق الممكنة.نتذكر ها هنا كيف استطاعت ثورة 1954 ضد الاحتلال الفرنسي القفز على بعض النخب المتصارعة والاتكاء على الطبقات الاجتماعية البسيطة التي ستصبح قوة فاعلة، ومتكأ قاعديا.
قفلة: ماذا بقي للكتّاب والشعراء والمثقفين والجامعيين والمفكرين والإعلاميين؟ وكيف سيتموقعون من جديد لتطهير أنفسهم والالتحاق بالمجتمعات التي لها اهتمامات أخرى كان يجب أن تؤخذ في الحسبان؟ لقد كانت معظم الشعارات، رغم ما يبدو عليها من بساطة وعفوية،شعارات ترتكز على ثنائيات ضدية وقيم أخلاقية مؤكدة قد لا نجدها في خطاب بعض النخب المهتمة بالإباحية وفائض التحديث والمبهمات والفن من أجل الفن، واللغة من أجل اللغة. الثنائيات المتداولة في الحراك هي: الصلاح/ الفساد، الحرية / الاستبداد، الاستلاب/ الهوية، وغيرها من الثنائيات القاعدية في حياة المجتمعات برمتها. أمّا فكرنا، رغم قيمته الكبرى التي لا يجب التنكر لها، فركز على المجردات التي قد تنفع المدرّجاتوالأفراد والمخابر والخاصة وخاصة الخاصة، وهي مجردات مستوردة في أغلبها لأنها ليست ذات صلة بجوهر الأمة واهتماماتها الفعلية. هل سيغير هؤلاء فلسفتهم وطرائق تعاملهم مع المجتمع؟ أم أنهم سيغلّبون أفكارهم وتوجهاتهم بمنحها الأولوية القصوى، ثمّ يعاتبون المجتمع «المتخلف» الذي لا يهتم بما يقولون وما يكتبون في سياقات عينية لها متطلباتها؟


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)