الجزائر

غارودي: الإسلام دين الحرية والإيجابية التاريخية



غارودي: الإسلام دين الحرية والإيجابية التاريخية
لم تجد مختلف وسائل الإعلام الغربية ما تعرّف به روجيه غارودي، عندما أوردت نبأ انتقاله إلى الرفيق الأعلى عن عمر يناهز ثماني وتسعين سنة يوم 13 من هذا الشهر، إلا بأنه 'الفيلسوف الفرنسي الذي شكك بالمحرقة'! كأن هذا هو كل ما في الأمر! كأن هذا هو جوهر المسيرة الاستثنائية لمفكر حر ألقى به التطواف البعيد المضني على كل الضفاف حتى أكرمه الله بأن هداه لدينه الحق.
كان من صفاء بصيرة غارودي -الذي عدّ، هو ولوي ألتوسير، أبرز منظري الماركسية في فرنسا- أنه ظل ثابتا، طيلة قرابة قرن من العمر، على الإيمان بالله العلي العزيز. فقد ولد عام 1913 في وسط عمالي في مرسيليا لأم كاثوليكية وأب ملحد. لكن الإلحاد لم يعرف إلى قلبه سبيلا. بل إنه أبان عن توق باكر إلى المطلق وعن استقلالية عجيبة في الشخصية عندما اعتنق البروتستانتية وهو بعد في الرابعة عشرة! وما إن بلغ العشرين حتى انضم إلى الحزب الشيوعي. فقد كان الفكر اليساري، في النصف الأول من القرن العشرين، يتراءى على أنه 'أفق الإنسانية الأسمى'. كان الفكر اليساري عهدئذ بمثابة الديانة الخلاصية التي يدين بها كل من آمن بقضية العدالة الاجتماعية والتقدم الإنساني.
نفته حكومة فيشي عام 1940 إلى معسكرات الاعتقال في الجزائر. ومنذ الخمسينيات صار من قادة الحزب الشيوعي وممثليه في البرلمان. تحولت أطروحته في السوربون عن 'النظرية المادية للمعرفة' إلى كتاب متداول على نطاق واسع (كان، مع 'محاورة بروتاغوراس' لأفلاطون، أول كتاب أقرأه في الفلسفة). اندلعت الخصومة بينه وبين ألتوسير في الستينيات حول مسألة 'النزعة الإنسانية' الجديدة التي أراد غارودي أن يجعلها أفقا تنفتح عليه الماركسية، فإذا به يرمى ب'التحريفية'! كان كتابه 'واقعية بلا ضفاف'، الذي وضع توطئته الشاعر لوي أراغون عام 1965، فتحا في نقد ضيق مدرسة الواقعية الاشتراكية. وأخذت مؤلفاته في أواخر الستينيات تدعو إلى الحوار مع المسيحية وتعيب على الملحدين انغلاقهم وتزمتهم. وبعد انتفاضة الطلاب في فرنسا والغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا عام 1968، أصدر غارودي كتاب 'هل يمكن للمرء أن يكون شيوعيا عام 1968؟'. فما هي إلا مدة حتى فصل من الحزب الشيوعي.
عاد غارودي إلى الدين باعتناق الكاثوليكية. وقد أفضى به الحرص على المزاوجة التأليفية، أثناء السبعينيات، بين الكاثوليكية والماركسية إلى تعاظم اهتمامه بالإسلام، حيث أصدر في تلك الفترة كتابيه الشهيرين 'وعود الإسلام' و'الإسلام دين المستقبل'. وقد ذاع صيته في العالمين العربي والإسلامي منذ شرح الله قلبه للإسلام مطلع الثمانينيات، وصار يستضاف بكثرة لإلقاء المحاضرات في مختلف البلاد العربية. على أني أذكر أني استمعت على الإذاعة التونسية إلى محاضرة ألقاها بالفرنسية في معهد الصحافة وعلوم الإخبار، وكان لمّا يدخل في الإسلام بعد.
كان من المفهوم أن يحظى محمد رجاء غارودي، كما صار يسمى، باحتفاء العرب والمسلمين. فقد آب من صراعات القرن العشرين الإيديولوجية سالما غانما. بدأ الرحلة الكبرى ماركسيا (موحدا بالله) وختمها مفكرا مسلما متفائلا بالخير. إلا أن ما زاد في شهرته لدى كثير من العرب -وزعزع من مصداقيته في بلاد الغرب- هو إصداره منتصف التسعينيات كتاب 'الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية'. فقد لاقى الكتاب هوى في نفوس هؤلاء لأن فيه تشكيكا في محرقة اليهود يكاد يبلغ حد الإنكار. إلا أن الحقيقة أنه من أوهى كتب غارودي، بل إنه أظلمها في حق نفسه. أولا لأن سجال المحرقة سجال غربي لا يعني العرب والمسلمين بأي وجه، وهو يعزز البروباغاندا الصهيونية من حيث يظن أنه يوهنها. وقد أصاب ادوارد سعيد عندما كتب آنذاك ينتقد غارودي وكل من يؤيده من العرب في زعم بطلان الحقيقة التاريخية للمحرقة. أما السبب الثاني، فهو أن غارودي قد سبق له أن أبلى أحسن البلاء في هذا المجال عندما أصدر عام 1983 كتابا فارقا بعنوان 'مسألة إسرائيل: الصهيونية السياسية'، لم يجرؤ أي من المثقفين الغربيين على التشكيك في صحة حقائقه التاريخية رغم أن غارودي قام فيه بفكّ كامل منظومة الميثولوجيا السياسية القائمة على أسطورة أرض الميعاد وأثبت فيه أن إسرائيل مجرد دولة كولونيالية عنصرية مدججة بالخرافة.
تغمد الله محمد رجاء غارودي بواسع رحمته وتلقاه بعظيم كرمه. فقد اكتشف الإسلام على حقيقته: دينا للحرية وللإيجابية التاريخية.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)