الجزائر

عزيز نسين، كاتبا إنسانيا



عزيز نسين، كاتبا إنسانيا
هناك كتّاب يحدثون برحيلهم فجوات يتعذر ملئها بعشرات التجارب السردية. لهؤلاء الراحلين ميزة خاصة ونكهة استثنائية لا نجدها في جهة أخرى، لأنها جزء من عبقريتهم الفذة، من نسغهم ودمهم المختلف عن الرماد. الكاتب التركي عزيز نسين (1915 1995) من هذا النوع الذي لا نعثر عليه في سوق الجملة، كما أنه لا يتوفر في أسواق الرثاث حيث تتهافت الأقلام الصغيرة بحثا عن الأمجاد العابرة. المجد الفعلي الذي حققه عزيز نسين هو مجده السردي المضيء الذي تأسس على جهد مفارق، وعلى بصيرة وموقف متلاحمين. لذا اعتبرت نصوصه القصصية ظاهرة أدبية تضاهي المنجز القصصي العالمي الذي كانت وراءه أقلام خالدة: موباسان، غوركي، تشيكوف، وغيرهم، ما جعل الروائي التركي الكبير يشار كمال يقول عنه:« إن أهم صفة في شخصية عزيز نسين هي قدرنه على الصمود التي جعلته منه أكبر كاتب ساخر في عصرنا».ارتبط الكاتب بمحيطه الخارجي الذي ظل موضوعا ومحفزا، وكانت قصصه انعكاسا لهذا الواقع وتجاوزا له بانتقاء طرائق القول التي لم تهتم بالجانب الحرفي الناقل، أو بالشكل الاملائي، بقدر اهتمامها بالرموز والدلالات التي تحيل على إدراك متقدم لجزئيات المحيط، للموضوعات والشخصيات، للأحداث والأفعال والحالات والقضايا السياسية التي ظلت من اهتماماته القاعدية.كتب عزيز نسين، بعد تخليه عن الجهاز العسكري الذي رقاه إلى مرتبة ضابط، للركح والشاشة، وألف قرابة ثمانين كتابا في القصة والرواية والسيرة والمسرح. كما اشتغل صحفيا ومصورا، وأسس جريدة ساخرة شبيهة بكتاباته، أو امتدادا لها، وستتسبب كتاباته ومواقفه في إدانته وسجنه ونفيه عدة مرات. كما رفعت ضده قرابة مائتي دعوة قضائية بتهمة القذف والخيانة، الأمر الذي حدث مع ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، وشاه إيران محمد رضا بهلوي، والملك فاروق في مصر، وغيرهم من الشخصيات التي رأت أنه كاتب مناوئ لها، أو متحامل عليها، في القصة وفي الإعلام.كانت قصصه الساخرة مثيرة للجدل بالنسبة إلى النقاد، فنيا وموضوعاتيا، إضافة إلى رؤيته المفارقة وطرحه المستفز لمسائل ظلت، بالنسبة إلى أغلب كتاب جيله، من الممنوعات الكبرى التي وجب الابتعاد عنها. كما كان أسلوبه في معالجة هذه القضايا أسلوبا خاصا شحذته التجربة وأصبح سمة جوهرية تصاحب سرده. أغلب نصوص عزيز نسين القصصية بنت على التفصيل والتعليق، التعليق على طريقة أفلام ألفريد هتشكوك التي تهتم بالجزء، لتقوم بتجميعه تدريجيا لإرباك القارىء. ذلك أنه يتعذر على المتلقي معرفة المسار العام للحكاية التي غالبا ما تتأسس على خطاب مضاد، أو مقلوب، وعلى شخصيات متواطئة مع السارد في سياقات. ما يجعل النهاية مفتوحة على ممكنات كثيرة، وإشكالية في آن واحد.لقد ظلت السخرية، بالنسبة إليه، خيارا قاعديا، إلى أن أصبحت، مع الوقت والممارسة، موضوعا من موضوعاته المتواترة في أغلب منجزه السردي. كان الكاتب يرى أنها من أهم الوسائل القادرة على نقل الواقع من زوايا أكثر فاعلية، وأكثر قدرة على المعالجة العميقة لمختلف الظواهر المتاحة للعين والحس. ربما كانت الأحداث أكبر من الواقعية، أو كذلك تصور، لذلك اختار طريقه الذي سيتسبب له في حصار ومتابعات قضائية لم تتوقف. لقد عاش عزيز نسين متمردا على الأدب «الطيب»، أو المسالم، أدب الرومانسية والأرائك، أو الأدب المتفائل، المورد الخدين، بتعبير الشاعر الروسي يافتوشنكو، وكانت طريقته في الكتابة نوعا من التطهير، كأنما كان يرغب في تبرئة نفسه، بطريقته العابثة بالتقاليد السياسية والبيروقراطية التي تتعارض وقناعاته التي دافع عنها بعدة أشكال متباينة، لكنها ثابتة كنواة دلالية. أجد في كتابات عزيز نسين نوعا من التجلي الغريب، من الإدانة الحكيمة لممارسات لا تتعلق ببلد عيني عاش تحت رايته وقوانينه، بقدر ما تنسحب على المجتمعات البشرية برمتها. ذلك أنه لم يحصر نفسه جغرافيا، لذا اخترقت نصوصه هذه الحدود وترجمت إلى عدة لغات، كما برمجت في عدة جامعات ومؤسسات بالنظر إلى قيمتها الفنية والجمالية، بصرف النظر عن القضايا السياسية من حيث إنها جاءت في درجة أدني، ولم تكن سببا في شهرته وانتشاره عالميا. لقد كان يعرف السرد، أو أنه عاش ليروي، بتعبير غابريال غارسيا ماركيز. لمن لم يطلع على نصوصه، هناك في الوطن العربي كاتب مهمّ يشبهه إلى حدّ ما، وربما عاش الظروف نفسها. أقصد ها هنا القاص السوري زكريا تامر بنصوصه الساخرة وأعمدته الصحفية الهزلية. لهذين الكاتبين خصوصيات مشتركة، وسخرية سوداء قلّ نظيرها، وهي تتقاطع، في جزء منها، مع سخرية برنارد شو وجورج أورويل في إنجلترا، رغم اختلاف الأجواء والطرائق. إنها أجواء شبيهة بالموت المضحك، أو بالحماقة البشرية المختبئة خلف الخطاب الرسمي ومختلف الممارسات التي لا علاقة لها بالحقيقة. لم يكن عزيز نسين كاتبا ساخرا لا التزام له. لقد عاش ملتزما بأدبه الهزلي، لكنه، إضافة إلى ذلك، قدم خدمات جليلة للمجتمع، ومنها إنشاء «وقف» يتصرف في حقوقه ككاتب من أجل مساعدة اليتامى والفقراء وضمان لهم وظيفة بعد الدراسة. بهذه الطريقة الإنسانية قام بتسوية قضية الإرث التي أصبحت حكرا على هؤلاء، دون العائلة والمقربين؟؟؟ يجب أن نقرأ له هذه العناوين لنعرف من هو، ومن نحن: «خصيصا للحمير»، «آه منا...نحن معشر الحمير»، «خذوا حذركم»، «الإضراب الكبير»، «ذنب الكلب»، وغيرها من العناوين التي لم تنهزم أمام الوقت لأنها متجذرة، صادقة وأصيلة...ورائعة.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)