الجزائر

عبد الملك مرتاض .. حبيبُ اللُّغة العربيَّة



أوَّلُ لقاءٍ حيٍّ شرَّفنِي اللهُ به مع العلاَّمة عبد الْملِك مرتاض كان بِجامعة الشلف (الجامعةِ التِي كنتُ أنتمي إليها) خريفَ 2014. وقد كان ذلك بِمناسبة مؤتَمرٍ دولِيٍّ نظَّمه قِسْم اللُّغة العربيَّةِ وآدابِها موسومٍ: نظريَّةُ البلاغة فِي تفكير عبد الْملك مرتاض اللُّغويّ، يومي: 04/ 03 من شهْر ديسمبر. إذنْ، كان هو عريسَ الْمؤتَمر، وكنَّا نَحْن الأساتيذَ، والطلاَّبَ، والباحثين .. الْمحتفين به، وأيُّ احتفاء.كان الحضور خرافِيّاً .. وإنِّي أصِفُ ما أصِفُ بلُغة الفوتوغرافيا، لا بلُغة الْمَجاز. كنَّا نتهافَتُ عليه تَهافتَ الأطفال، والْمَجانين .. عسى أن نَحظى بصورة تذكاريَّة معه، أو بكلمةٍ طيِّبةٍ تنْضَح عن روحه كما ينضَح عنقودُ العِنَب عن الدالية ...
وأمَّا أنا، فقد كنتُ أراقب الْمَشاهِد عن بُعْدٍ تتابعُ، وتَتْرى مشهداً، فَمَشْهدا .. لَم أكن أقوى على مقابلته، أو مُصافحته، أوِ الجلوسِ إلى جواره فِي مَقْعدٍ صريح. كنتُ أهابُه كما يَهاب الطفلُ أبَويه. لكنَّنِي سرعان ما اكتشَفْتُ أنَّ الرجل بسيطٌ كشَمْعدان.
على هامش الْمنصَّة التِي كانت تُلْقى منها مُحاضَراتُ الْمتدَخِّلين، خُصِّصتْ حُجرةٌ شرفيَّة للعريس عبد الْملِك مرتاض تسْنح لِمُريديه، ومُعْجَبيه، وللمُشتغلين على رواياته، ومؤلَّفاته النقديَّة .. بِممارسة شيءٍ من الدردشة الفكريَّة الْحَميمة.
هنا .. فِي خضَّم الوجود الْجَمْعيِّ للأساتذة، وبعضِ الطلاَّب الْخِيَرة، تناقصَ اهْتِيابِي، فجلستُ قُبالتَه مُنصِتاً، مُعْجَباً، مُتأمِّلا ...
كانتِ الأسئلة تتداعى عليه كهَطَلان الْمطر. وكان كَوْكَبُها يدور فِي فلَك اللُّغويَّات، والْمُعجَميَّات. غير أنِّي كسَرتُ الإيقاع إذ طرحتُ عليه هذا السؤال:
- أستاذيَ القدير، أيَّ عدَمٍ كنتُم تقْصُدون فِي مؤلَّفكم: (الكتابةُ من مَوْقع العدَم)؛ العدَمَ الوجوديَّ أمِ العدَمَ الطبيعيّ ؟
أجابَنِي بعْد أنِ استدار إلَيَّ استدارةَ فيلسوف:
- لا .. لا يا ولدي. لا علاقة للكتاب بالفلسفة الوجوديَّة. الأمر كلُّه أنَّنِي أردتُ أن أعرف أين تكون الكتابة قبل أن يُجْريَ الكاتبُ ريشتَه على بياض الصفحة ..
لستُ أدري ما أحْزنَنِي إذ تلَقَّيتُ هذه الإجابة. كنتُ أعتقد أنَّ الكتاب، الذي لَم أكن قد قرأتُه، يرمي إلى التأسيس لوجوديَّةٍ مَخصوصةٍ بالكتابة. مع أنَّ عبد الْملِك مرتاض قد أقرَّ لِي، فِي سياقٍ آخرَ من النقاش، أنَّ الكتابة لديه شديدةُ الارتباط بقلَقٍ وجوديٍّ يسْكنُه دونَما انقطاع. والقلَقُ الوجوديُّ – كما أعرف- هو من الْمُصطلحات القاعديَّة التِي ركَح عليها فلاسفةُ الوجوديَّة أنفسُهم !
@@@
مُسْيَ اليوم الأوَّل من أيَّام الْمُؤتَمر، حَبانِيَ الله، مرَّةً أخرى، بأن جعلَنِي أنفرد بالجلوس إلى العلاَّمة عبد الْملِك مرتاض فِي بَهْو الفندق الذي تقرَّرتْ إقامتُه فيه: فندقِ الوادي (La vallée).
كان ينتظر أن تتمَّ إجراءاتُ حجْز الغُرفة فانضمَمْتُ إليه، بينما انصرف بقيَّةُ الأساتيذ، والْمُنظِّمين الْمُقيمين بِمدينة الشلف إلى ديارهم .. جلَسْنا على أريكتَيْن فِي قاعةٍ مُهيَّأةٍ لانتظار الزبائن، وكنتُ فِي ذروة النشوة والأريَحيَّة، وكانتِ الأريكةُ الْجالس عليها عبد الْملِك مرتاض تُقاسِمُنِي بعضَ نشوتِي، وبعضَ أريَحيَّتِي ...
خُضْنا فِي شُعَبٍ شتَّى من قضايا الفكر فِي الوطن العربِيّ. وتناوَلْنا فِي شُعبة من شُعَب الحديث الوضع الْمرَضيَّ الذي لَم يلبث ينْخَر جسد الجامعة الجزائريَّة .. لكنَّنِي فِي الغالب لَم أكن أصغي إلى الكلام بقدر ما كنتُ أصغي إلى الْمتكلِّم. فأذكُر أنِّي سألتُه مرَّةً عن الْمُفكِّر الراحل عبد الرحْمَن بدَوي لا من أجل أن أعرف وِجْهةَ نظره فيه، بل لأنَّنِي، فِي لَحظةٍ، أبصرْتُ فِي وَجْهه الكريم عبدَ الرحْمَن بدَوي ماثلاً أمامي ..
هجَسْتُ، مرَّةً، بِهذا السؤال: ماذا لو كان عبد الْملِك مرتاض شاعراً ؟ لكان طاغُورَ العرَب. فقد كانتِ الحكمةُ تنثال من فمِه كالْماء من أفواه النوافير ..
كنتُ أجالِس طَهَ حسين وقد أعاد الله إليه نعْمة البصَر !
كان الْحُوار بيننا شائقاً كفيلمٍ سينمائيّ. وقد تداعَيْتُ فِي حواري حتَّى نسِيتُ نفسي، وكدْتُ أبيتُ اللَّيلة فِي العراء على ضَفَّة الوادي بدَل الْمَبيت مُعزَّزاً فِي غُرفة من غُرَف فندق الوادي ! فالقائمون على الْملتقى لَم يَحْجزوا لِي غرفةً، أو نصْفَ غُرفةٍ .. على الرغم من أنَّنِي كنت عضواً فِي لُجْنتِه العلميَّة، وحكَّمتُ ما حكَّمتُ من مُداخلاته المتهاطِلة المتلاطِمة ؟
ويُخْتَتم الْمُلتقى، ليُقدِّر الله علَيَّ مُصادفةً أخرى، كانت من أجْمل الْمُصادفات فِي حياتِي. فقد كانت عودةُ عبد الْملِك مرتاض إلى وِهرانَ مُبرمَجةً على مثْن مَرْكبة صديقِنا الدكتور الْحاج جُغْدُم، أحْسَن الله إليه. وبِحُكم إقامتِي بوهران كُتِبتْ لِي مُرافقتُهُما فِي سَفرٍ عجائبِيٍّ لا زمانَ له، ولا مكان .. كان من أقْصَر الأسْفار فِي حياتِي زمَناً، ومن أطْوَلِها وَزْنا ...
كأنَّ سيَّارة الدكتور قد زلَقتْ بنا فِي فجوةٍ زمنيَّةٍ تُفْضي إلى خارج مَجَرَّتنا .. إلى حيث الكلامُ تُفَّاحٌ، والعربيَّةُ عِنَب ...
روى لنا العلاَّمةُ عبد الْملك مرتاض الأعاجيبَ مِمَّا هو مَحفوظٌ فِي لَوْح تاريْخه الفكريِّ، والإبداعيِّ، والشخصيِّ حتَّى. لَم يتوقَّف عن الكلام لَحظةً .. كأنَّ عشرين مرتاضاً كانوا يسافرون معنا فِي طريق العودة من مدينة الشلف إلى وهران !
وقد كنتُ شكَوتُ له، فِي مَطْلَع الرحلة، أحَد القائمين على تسْيِير الْجَلسة الأخيرة من الْمُؤتَمر، إذ حرَمنِي من تلاوة كلِمة تقديرٍ على شرفه، كنتُ قد اقتطعتُها سلَفاً من رسالةٍ لِي مُطوَّلةٍ إلى صديقي الدكتور يوسف وغْليسي، ومن قراءة قصيدة شِعرٍ على الهامش. فكان أنِ اغتاظ عبد الْملك مرتاض، وعتَب علَيَّ أنِّي لَم أُنْهِ إلى عِلْمه بذلك. ثُمَّ طلَب منِّي نصَّ الكلمة، ونصَّ القصيدة. وإنِّي لأستحْسِن فِي هذا السياق الْجليل أن أسْرُد نصَّ الكلمة بكلِّ حرْفيَّةٍ، وأمانة:
يتبَع ...


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)