عائلة سيد علي تثير الشكوك وتأمل في سماع أنباء عن إبنها سماسرة قارب الموت قتلوا الشباب الحراق بعدما خططوا لإفشال الرحلة

يتذكّر الجميع حادثة انتشال جثث لــ 6 حراقة من شاطئ عيون الترك بوهران المصادف ليوم عيد الفطر من سنة 2006، عائلات الشباب الحراق الذين قدموا من العاصمة ومغنية ومنطقة القبائل بحثا عن أبنائهم لم تكن ردة فعل أمّهاتهم سوى إطلاق العنان لزغاريدهم، لأن المهم عندهم كان في استعادة جثث أبنائهم وتخصيص قبور لفلذات أكبادهم يزرونهم متى شاءوا.. السائق كان مرتديا صدريّة الإنقاذ ورمى نفسه بعدما حاول إغراق القارب  والأهم من كل هذا إطفاء نار “الحرقة” المشتعلة في قلب كل شخص فقد فردا عزيزا من باب أن الجزائريين يؤمنون بمقولة “احفر بالفأس واقطع ليّاس”. غير أن عائلة سيد علي مختاري، الذي كان ضمن هذه المجموعة، لا تزال جمرة فقدانها لابنها الأكبر الذي لم تظهر جثته ولا أخباره لحد الساعة تعمّق من حزنها مع انقضاء كل يوم.  تفاصيل هذه الرحلة التي تضاف لعشرات رحلات الحر'ة الفاشلة والتي تدخل عامها الخامس يختلف فشلها عن بقية الرحلات التي وصلتنا أنباءها في كون منظمي العملية خططوا لفشلها قبل أن يكتب القدر ذلك. ولهذا السبب ارتأت “الفجر” نقل تفاصيل المغامرة التي كتب لها الفشل من لسان كمال، الأخ الذي يصغر سيد علي بعام واحد والذي نقلها بدوره من حكيم، أحد الحرا'ة الناجين من رحلة الموت، وهذا الأخير أيضا أكمل سيناريو الحكاية الناقص على لسان مراد الذي نجا بدوره من الموت.  يقول كمال 29 سنة إن أخاه (سيد علي) الذي كان آنذاك يبلغ من العمر 26 سنة قد غادر المنزل العائلي الكائن بالقصبة العليا شهر رمضان 2006 باتجاه مدينة وهران حاملا معه حلما بمستقبل واعد تحول غداة تجسيده على أرض الواقع إلى كابوس لم تستيقظ منه عائلته لحد الساعة.         حكاية حراقة.. حكاية أبطال الموت    23 أكتوبر 2006 المصادف لليلة عيد الفطر هو التاريخ الذي تم فيه تجسيد العملية. وقبلها بيوم اتصل سيد علي بأخيه كمال الذي كان وقتها يبلغ 25 سنة، وقال له “إذا لم ننجح اليوم في تنفيذ الخطة سأمضي العيد مع العائلة”. وكانت هذه المكالمة الهاتفية آخر عهده بأخيه، فلا أخوه نجح في الوصول إلى الضفة المقابلة ولا هو رجع إلى المنزل العائلي.  في اليوم الموالي للحادثة عندما انتشر الخبر عبر وسائل الإعلام سافر كمال إلى وهران وهناك أتم تفاصيل المأساة التي جاءت على لسان الناجين الثلاثة، وخاصة صديقا سيد علي اللذان كانا مقربان جدا من بعضهما ونقل عن حكيم بقية التفاصيل.   قبل مغادرة الشاطئ قام منظم العملية الذي يبقى شخصا مجهولا بتغيير سائق القارب بشاب لا يتجاوز سنه 25 وتم تزويد القارب بعشر عبوات من البنزين من سعة 30 ليترا وجهاز قياس السرعة “جي بي آس”، حيث أخذ حكيم مكانه بمحاذاة السائق في حين أخذ سيد علي مكانه في الجهة المقابلة لحكيم.  وعندما ابتعد القارب عن الشاطئ بمسافة قليلة سأل سيد علي صديقه إذا ما كان السائق قد شغّل جهاز قياس المسافات قبل أن يرد عليه بالنفي، الأمر الذي جعل سيد علي يستفسر عن السبب لدى السائق فأجابه هذا الأخير بأنه يدرك جيدا عمله.  وظل سيد علي يستفسر من باب تجربته التي كوّنها بفشله مرتين في الحر'ة، غير أن السائق ظل يردّد عبارته “أعرف ما أفعل”. وبعد قطع مسافة 9 كيلومترات أحس سيد علي بشيء غريب يحدث بسبب التصرفات الغريبة التي كان يصدرها السائق وفي مقدمتها سيره بسرعة بطيئة جدا.   وأمام هذا الوضع طلب سيد علي من حكيم إخطار السائق بالعودة لشاطئ وهران على أساس عدول الحراقة عن فكرتهم للوصول للضفة الأخرى، لكن هذا الطلب قوبل بردة فعل غير متوقعة من قبل السائق، الذي ترجم انزعاجه من الطلب بالرفع من سرعة المحرك إلى الحد الأقصى قبل أن يوقفه فجأة، الأمر الذي نتج عنه تسرب الماء إلى داخل القارب بسبب قوة الضغط قبل أن يتبع السائق هذه الحركات برمي نفسه في البحر معرضا حياة الشباب الذي تراوح سنهم بين العشرين و25 سنة لخطر محتم في ظل وجود عناصر منهم لا تتقن السباحة.   في هذه اللحظات العصية بادر سيد علي إلى تهدئة الشبان الذين ينحدرون من منطقة القبائل والذين كانوا يشكلون الأغلبية ضمن هذه المجموعة. وبالموازاة، قام حكيم برمي عبوات البنزين في البحر كخطوة للتخفيف من ثقلها، غير أن الجلبة الكبيرة والصراخ الناتج عن اليأس وفقدان الأمل في النجاة بالنسبة لمن لا يتقنون السباحة نتج عنه انقلاب القارب في حدود الساعة العاشرة ليلا، فغرق أحدهم مباشرة بسبب ارتطام رأسه بالقارب في حين ظل الشباب الذين لا يعرفون السباحة متشبثين بالقارب قبل أن يطلقوا العنان وسط عتمة الليل القاتمة وبرودة الطقس لصراخهم الممزوج بألم الخوف واليأس...   شراء الموت بـ10و15مليون سنتيم  وأمام هذا الوضع كان لا بد من أن يتحرك الشباب الذين يتقنون السباحة لتخليص أنفسهم من مأزق ورطوا أنفسهم فيه، نتيجة لثقتهم العمياء في تجّار الموت، بدليل أنهم “اشتروا” موتهم بعد أن دفعوا مبالغ تراوحت بين 10و15مليون سنتيم.  وفي هذه الأثناء، استعان سيد علي وحكيم بعبوات البنزين بعد أن ساعد كل منهما الآخر في ربطها حول نفسيهما. انطلق سيد علي وحكيم بهدف الوصول بأسرع وقت ممكن للشاطئ الذي يبعد عنهما بتسع كيلومترات لجلب المساعدة مستعينين بعبوات البنزين للاتكاء عليها عند الإحساس بالتعب. وبعد 6 ساعات من السباحة، حددتها ساعة اليد الخاصة بالماء التي يملكها حكيم، واستعانتهما بقراءة ما يحفظونه من القرآن الكريم، قرر حكيم التخلي عن عبوة البنزين للرفع من سرعة السباحة غير أن سيد علي رفض ذلك  وأخطره بأنه سيظل ملتصقا بها سواء بقي حيا أو ميتا.   ولأن حكيم أصبح متقدما في السباحة مقارنة مع سيد  علي، ظل يتواصلان بالرفع من أصواتهما حكيم ينادي باسم صديقه وسيد علي يرد عليه ويؤكد له أن الذي يصل أولا يتصل بالنجدة. وظلت أصواتهما تحاول خرق حلكة الظلام وتباعدهما التدريجي عن بعضهما البعض قبل أن يتلاشى الصوت ولم يعد حكيم يسمع صوت صديقه سيد علي الذي يحتفظ البحر وحده بسره.....   حكيم الذي نال منه التعب واليأس كان يحس بملامسة الحوت لجسده، وقتها كان حكيم يقول في نفسه إن الحوت يخاله ميتا يبحث عن فرصة سانحة ليأكله. ومن التعب الشديد أغمي عليه. لكنه استعاد وعيه نتيجة لسعة قنديل البحر كانت أشبه بصعقة كهربائية أعادت له الحياة من جديد. وفي حدود الساعة السادسة صباحا وبعدما فقد الأمل في النجاة وأحس بدنو أجله، دعا الله أن يغفر ذنوبه وكل ما فعله في حياته إلى درجة أنه تخيل الأصوات الصادرة عن فرق البحرية القادمة لنجدته بأنه صوت الموت يقترب منه.   عندما انطلق سيد علي وحكيم للبحث عن النجدة، انطلق أيضا ثلاثة شبان. علي أصغرهم سنا، نحيف الجسم ويعرف قواعد السباحة، أما بوعلام فكان سبّاحا ماهرا ومراد كان رياضيا في الجيدو. مع مرور الوقت لم يتمكّن علي من مواصلة السباحة، لأن التعب وبرودة البحر نالا من جسمه النحيل، الأمر الذي جعل بوعلام يطلب منه أن  يمسك بكتفيه. لكن علي رفض أن يحمله مسؤوليته بل كانت وصيته الأخيرة إبلاغ عائلته بموته قبل أن يستلم للموت دون أن ينسى أن ينطق بالشهادتين.   سيد علي ....إما الحياة أو الموت  بوعلام السبّاح الماهر مات في البحر وانتشلت جثته بعد أن افترق عن مراد والبحر وحده شاهد على موته. أما مراد فقد ظلت صورة استسلام علي للموت تسيطر على ذهنه بعدما وجد نفسه وحيدا يصارع هاجس الموت.   الجميع أرجع نجاته وتحمله المشقة لبنيته القوية بحكم ممارسته للجيدو، فمراد ظل يرفض بينه وبين نفسه أن يستسلم للموت وظل يسبح ويصارع قسوة البرد وعتمة الظلام إلى أن وصل إلى الشاطئ.   ورغم ذلك، واصل سباحته في الرمل لأنه لم يكن متأكدا أنه وصل أخيرا إلى برّ الأمان. وصادف وصوله وجود شرطيين بالزي المدني أبلغهما بالحادث، حيث اتصلا بحراس الشواطئ الذين انطلقوا لنجدة الشباب، إذ انتشلوا كل الجثث ولم يعثروا على جثة سيد علي رغم مواصلة فرق النجدة للبحث عنه طيلة عشرة أيام كاملة دون التوصل إلى نتيجة. كما تم إنقاذ كل من حكيم وشاب آخر ونقلا إلى المستشفى بعد أن تم سابقا نقل مراد الذي ينحدر من تيزي راشد بولاية تيزي وزو.   العائلات التي انطلقت إلى عين المكان فور سماعها للخبر أطلقت العنان لزغاريدها عندما تعرفت على جثث أبنائها.   وبعد استعادة حكيم وعيه بمستشفى بوهران سأله الدركي عمن يكون سيد علي بعدما ظل يهذي باسمه، فرد عليه بأنه صديقه. لكن سرعان ما أخطره مراد، الذي كان متواجدا معه في نفس الغرفة، بأن سيد علي مات. لكن حكيم رفض الاقتناع بذلك. وعندما تم إظهار الجثة بمصلحة حفظ الجثث لحكيم تبيّن أنها لعلي وليست لسيد علي.   ويوجه كمال أخ سيد علي رسالة للشباب عبر جريدة “الفجر” يقول من خلالها إن “البحر لا يمكن اللعب معه أبدا فأخي بالرغم من أنه سبّاح كبير إلا أنه لم يظهر لحد الساعة.   الناس يخافون البحر وهم على متن باخرة فما بالك بالذين يشترون الموت بأموالهم ويغامرون بأرواحهم بالاستعانة بالقوارب التي تعد وسيلة للقتل” مطالبا أن يتخلى الشباب عن أنانيتهم من خلال وضع عائلاتهم وخاصة الوالدين ضمن مخططاتهم قبل التفكير في الحرقة لأن حرقة الوالدين تبقى مشتعلة في القلب تنتظر أن تصلهم أنباء عن فلذات كبدهم.       خيرة طيب عتو