الجزائر

طه حسين و''الربوة المنسية''



 لقاء طه حسين الآخر بالجزائر كان من خلال الربوة المنسيّة . فهذه الرواية لفتت نظر ضرير مصر بعد أن قدّمت في باريس على أنها رواية بربرية عظيمة . إلا أن النقاد الجزائريين اتهموا معمري بالإفراط في الغرائبية، وذهبوا إلى أن روايته لا تختلف في شكلها ومضمونها عن ذلك الأدب الذي يصوّر سحر الأوطان البعيدة والعادات الغريبة من منظور يكاد يكون اثنولوجيا. وفي مواجهته موجة النقد العنيفة، اضطر مولود معمري إلى توضيح غرضه من الرواية بالقول: حين صدرت روايتي الأولى تحدّث بعض النقاد عن الأدب الغرائبي. إنهم لم يفهموا أن الغرائبي بالنسبة إليّ هي تلك الكتب الغريبة بأبطال يحملون أسماء دومينيك وايما وأوجين، بدلا من محمد وعلي وفاطمة. شخصيات تتصرف بشكل مبهم وتعاني من وخز الضمير، وحرة على نحو لا يصدق، لأني أدركت أن شعبي محروم من صوته .
كادت تلك الحملة الهوجاء أن تحرمنا من صوت وقلم معمري، لو لا صبره ومثابرته. وكانت تحذيرا قبل الأوان من دخول النقاش الثقافي والأدبي عند الجزائرريين مأزق التسييس، وهو ما أشار إليه محمد أركون لما نبّه إلى خطر الانزلاق في تسييس القضايا المتعلّقة بالتاريخ والثقافة والأدب وقضايا المجتمع في الحركة الوطنية وحرب التحرير.
اعتبر معمري آنذاك كاتبا خارج السياق. وكان المشنّعون به ينتظرون منه أن يكون صوتا متناغما مع أجنذة ثورات التحرير ومطالب الالتزام بشكله الستاليني الفجّ. ولم يفهموا أن الأدب هو شيء آخر غير رجع الصدى للسياسة والثورات والانقلابات.
كانت الربوة المنسيّة شيئا آخر مختلفا تماما. فقد أراد معمري أن يبرز من خلال مصائر شخصيات روايته الصراع الأزلي بين عالم القديم والجديد، وجيلين يعيشان بلا تواصل، وهو صراع لا يكشف عن نفسه ولا يصفو إلى السطح بحكم طغيان التقاليد البالية المتحكّمة في العلاقات بين سكان قرية ضائعة في الزمان والمكان. وبالرغم من أن معمري صرّح بأنه أراد فقط تصوير حياة الجزائر المستعمرة، إلا أنه في حقيقة الأمر وقّع في ربوته المنسيّة شهادة وفاة العالم القديم بجموده وقسوته وانحطاطه.
لقد حدّد رد معمري بالضبط العلامة الفارقة بين الأدب الوطني الأصيل والأدب الكولونيالي، كما أن الصوت الذي أشار إليه الكاتب لم يفهمه لا النقاد الجزائريون ولا الفرنسيون سواء.
لقد مضت أكثـر من خمسين سنة على صدور الربوة المنسيّة . ورغم هذا الفارق التاريخي، فإن ما يصفه معمري لا يختلف في جوهره عمّا تعيشه الجزائر اليوم. يقول معمري في أحد مقاطع الرواية: كان كلّ واحد يبحث عن الطريق المؤدي إلى الخلاص. بعضهم تسلّطت به بشكل غامض ذكرى عظمة الإسلام في قديم الزمان. والبعض الآخر كان يفكر في اتحاد عابر للحدود لكل البروليتاريين في العالم. ومنهم من لم يكن يفكر في شيء، وآخرون كانوا يكدّسون الأموال .
في خضم الهجوم الذي تعرّض له معمري أرسل روايته إلى عميد الأدب العربي طه حسين الذي قرأها قراءة مغايرة بعين الباحث الناقد لا السياسي الحاسب. ونشر عنها مقالا جميلا في كتابه نقد وإصلاح .
ولا أحسبني أضيف شيئا على ما قاله طه حسين في مولود معمري وفي ربوته المنسيّة . وأكتفي بختم مقالي بمقتطفات من مقاله: صاحب هذا الكتاب أخ لنا من أهل الجزائر، لا أعرفه ولا أكاد أحقق اسمه الذي يحمله كتابه هذا مكتوبا باللغة الفرنسية... ولو كان من أصل عربي لأمكن أن يرد اسمه من التحريف الفرنسي إلى طبيعته العربية الأولى. ولكنه نشأ في قبيلة من قبائل البربر فتأثـر اسمه بلغته الأولى، وكتب بالأحرف الفرنسية مولود ماميري.. وعسى أن يكون أصله مولود معمري...
وكتابه رائع أشد الروعة وأقصاها، بحيث يمكن أن يعد خير ما أخرج في الأدب الفرنسي أثناء هذه الأعوام الأخيرة، وإن كنت لا أعرف أنه ظفر بجائزة من هذه الجوائزالكثيرة التي تمنح في فرنسا لكتب لا ترقى إلى منزلة هذا الكتاب جمالا وروعة..
وإن مما يؤلم حقا أن يصدر هذا الكتاب الرائع الممتاز في بلد كالجزائر للعربية فيه المنزلة الأولى بالقياس إلى أهله. ولكني لم أتلق من هذا البلد كتابا بلغة أهله يقارب هذا الكتاب جودة وإتقانا وامتيازا..
ويختم طه حسي بالقول:
وفي الكتاب خصلتان كلّ واحدة منهما تكفي لتبلغ بالكتاب منزلة من الجودة والإتقان، وكيف وقد اجتمعتا أحسن اجتماع، والتأمتا وائتلفت منهما موسيقى حلوة مرة ترضي القلب والذوق معا .  


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)