الجزائر - A la une

صورتان:أحمد شوقي وفيكتور هيغو



كنت وما أزال، كغيري من قراء اللغتين العربية والفرنسية وآدابهما، معجبا مفتونا بشعر كل من أحمد شوقي (1868-1932) وفيكتور هيغو (1802-1885). فالأول يرمز إلى أمة وحضارة وإلى آفاق يمكن ارتيادها في هذا الزمن، والثاني يمثل بدوره فكرا شامخا لا يكاد يكون له نظير في الأدب الفرنسي كله.
النفس الملحمي عند شوقي مذهل حقا، بل إنني أكاد أشبه هذا الشاعر بالموجة العارمة التي تكشط كل شيء كشطا، لا لكي لا تبقي ولا تذر شيئا قبالتها وحواليها، بل، لكي تكشف عن قيعان لا نعرف عنها شيئا في مضمار الأحاسيس والجمال والانتماء الإنساني بوجه عام، بينما يقف فيكتور هيغو مرفوع الهامة على صخرة يشرف منها على الماضي والمستقبل ضمن تشكيلة جمالية وإيقاعية فريدة حقا. وليس أدل على ذلك من ديوانه الفخم الضخم ”أسطورة القرون” الذي رصد فيه نبض الإنسانية منذ بدء الخليقة إلى عهده، أي إلى أواسط القرن التاسع عشر. وتلك ميزة لا ينطوي عليها إلا كبار ناظمي الملاحم منذ عهد هوميروس وفيرجيل ودانتي وأصحاب المعلقات في العهد العربي الجاهلي.
ولعل هاتين الفكرتين رسختا في وجداني بفضل الصورتين اللتين التقطتا لهذين الشاعرين. وهما صورتان متشابهتان تمثلانهما وقد وضع كل واحد منهما جانبا من خده على ساعده على سبيل التأمل والتفكير. ولذلك، ما استطعت أن أحتفظ في ذاكرتي ومخيلتي بصور أخرى أخذت لهما بالرغم من أن هناك عددا من اللقطات عنهما.
وأحسب أن تينك الصورتين أضافتا بعدا جماليا وفكريا جديدا إلى إبداع كل من هذين الشاعرين الفذين. فلقد تساءلت دائما وأبدا، ومنذ أن وعيت بعض الأحاسيس الجمالية في شعرهما، ما إذا لم يكن لتينك الصورتين دخل مباشر في قراءاتي المختلفة لما أبدعاه. ووجدتني غير ما مرة أتساءل عن كبار الشعراء العرب منذ عهود الجاهلية الأولى إلى أواخر القرن التاسع عشر، أي إلى الفترة التي صارت فيها الصورة الفوتوغرافية جزءا من الفن التشكيلي: ثم ماذا لو أنه كانت بين أيدينا صور لامرىء القيس والمعري والمتنبي وعلي بن الجهم وابن زيدون وزريق البغدادي وغيرهم من نوابغ الكلام الجميل؟ أترانا كنا ننظر إلى إبداعهم الأدبي نفس النظرة، أم إننا كنا نقرأهم من زوايا جديدة مختلفة الاختلاف كله عن تلك التي تعودنا عليها؟ وما استطعت جوابا إلى اليوم، إذ أن ما رسخ في وجداني حين اللقاء الأول بصورتي كل من أحمد شوقي وفيكتور هيغو، ظل على حاله من النصاعة، ولا يمكن أن تشوبه شائبة من أحاسيس وجدانية جديدة بالرغم من أنني أتطلع إلى آفاق جديدة كلما قرأت ما نظماه.
ونفس النظرة ألقيتها على تمثال ”المفكر” للنحات «أوغست رودان”، ذلك الذي صب وجدانه كله في تشكيلة من الحديد أو من النحاس بحيث فرضت نفسها على كل من تأمل ذلك التمثال. وتساءلت أيضا في هذا الشأن: هل المخ البشري هو محل التفكير، أم إن القلب هو الذي يقوم بمثل هذا العمل الجبار؟ وحق لي أن أطرح مثل هذا التساؤل ذلك لأنني تعلمت ومن قراءاتي في الشعر العربي أن هناك جوارح أخرى في الجسد الإنساني تضطلع بالعمل الفكري من مثل الكبد بمثل ما يقوم به القلب. وهناك صورة أخرى لهذا العمل في الشعر الفرنسي على حد ما يقول به الشاعر ألفريد دو موسيه الذي يقر بأن القلب هو موطن الإبداع الفكري.
وأيا ما كانت شطحاتي الوجدانية في هذا المضمار، فقد بدا لي أن هناك ”تقليعة” إن صح التعبير درج عليها بعض أهل الأدب منذ ظهور فن التصوير الفوتوغرافي، وهي أن يضع الواحد منهم جانبا من خده على يمناه أو يسراه مدللا بذلك على أنه منهمك في التفكير الجاد، ولعل الصورة المأثورة عن الشيخ المجاهد عبد الحميد بن باديس لا تشذ عن هذه القاعدة، فنحن مازلنا نحتفظ له بنفس الصورة التي تمثله وقد أسند جانبا من وجهه على يده والمصحف الكريم في اليد الأخرى.
إن هي إلا قراءة بسيطة مني نقلتني إلى الماضي البعيد، وأحسب أنني لن أغير نظرتي إلى أحمد شوقي وفيكتور هيغو وغيرهما من أهل الفكر والأدب، خاصة أولئك الذين عاصروا المرحلة الأولى من التصوير الفوتوغرافي.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)