الجزائر

صناعة الغضب



من هنا، من هذه القرارات الظالمة الجائرة التي تقسّم البشرية إلى أقوياء يجوز لهم فعل أيّ شيء وضعفاء محكوم عليهم بقبول الأمر الواقع، من هنا تحديدا ينبتُ التطرّف ويمدّ جذوره وترتفع أغصانه ويحبّها الناس!هذه اللحظات المفصليّة في التاريخ هي التي تدفع الشعوب والأمم إلى نهج أسلوب العنف الذي سيجد كل المترادفات الكريمة في القاموس الديني لوصف نفسه وسيجد كلّ المبرّرات في المدوّنة الأخلاقيّة للبرهان على رجاحته. ولا بأس بعد ذلك أن تستعيد الإنسانية ذاكرة الحرب والصّراع وتضحي بكل المكتسبات التي حقّقتها مع تطوّر العلم والتقنيّة، لأنّها ببساطة أغفلت صيانة منظومتها القياديّة وتركت ساسة مغامرين يدخلون القمرة ولا يخرجون، فقد صارت الديمقراطية الغربية تدفع بقادة يشكّلون خطرا على الإنسانيّة، فتارة يظهر مفوّضون من الرّب، يقسّمون الإنسانية إلى محور خير ومحور شرّ ويشعلون حروبا تحصد أرواح مئات الآلاف من البشر و تدمّر ما بناه الإنسان في قرون بأسرها، وتارة يتقمّص قادة دور الربّ نفسه وينزلون العقاب بقطاع من ساكنة هذا الكوكب المعذّب بمخلوقاته.
كان يمكن أن تكون القدس مدينة للسلام لو أسقط الأقوياء معيار القوّة من إدارتها، لو لم يهجّر الغزاة ساكنيها ويضعوا اليد عليها ويعتدوا على مسيحييها ومسلميها، كما فعلوا ببلدات وقرى فلسطينية، طردوا سكانها وهدموا بيوتهم واستنبتوا المستوطنات.
قبل أن تتحرّك آلة الميديا لطمس الحق وتسفيهه، وللأسف فقد انخرطت الميديا العربية في اللّعبة وحاولت ترسيخ صورة نمطية ومألوفة عن هذا البلد. لذلك لا بد من تصحيح الصورة، ففلسطين ليست خبرا مُمّلا في نشرات الأخبار من فرط التكرار، وليست لازمة في خطب الحكام وليست ذريعة لصفقات سلاح يستفيد منها البائع والمشتري والماشي بينهما، وفلسطين ليست الكلام الذي يتطاير من الأفواه المتطرفة الباحثة عن سجع في جملها الفصيحة، فلسطين ليست هذه الأهجيات التي بات يطلقها سكان شبكات التواصل الاجتماعي من عرب أضاعوا البوصلة وأصبحوا يخلطون بين الحقّ والباطل في معرض "ثورتهم" على السائد.
فلسطين ليست مشكلة عربيّة وإسلامية، بل هي قضيّة العالم وقد أفسدته طبائع الاستبداد ونزعات القوة، هي مشكلة الإنسانية وقد انتصرت لغاصب وتواطأت معه في إعلاء دينه وإسقاط ديانات الآخرين.
فلسطين ليست قضية دينيّة كما يتوهّم المتعلمنون، بل هي حكاية جور في العلاقات الدولية، انتقلت من وعد إلى وعد ومن يد غاصب إلى يد غاصب إلى يد تحرس الغاصبين. ثم لماذا نمنع الإسلاميين من الحديث عن القدس و لا نفعل ذلك مع الإنجيليين المتطرفين والصهاينة و المتصهينين. ولماذا يحاول بعض العرب منع المسلمين من غير العرب من الحديث عن فلسطين ويعملون على احتكار قضيّة لم يقدّموا لها شيئا على أرض الواقع خارج الكلام المكرّر منذ عشرات السّنين؟
وبغضّ النظر عن مساوئ قرار ترامب، فإنه يضع الفلسطينيين أمام الحقيقة العارية: أمريكا ليست راعيّة للسلام ولكنها راعيّة لإسرائيل، والفارق في طريقة وصف نزلاء البيت الأبيض للضحيّة فقط لا غير.
هذا الوضع سيجعل الضحيّة تختار أدوات المقاومة، وسيكون من الحيف إجبار الفلسطينيين على تحديد مستوى غضبهم وطريقة مطالبتهم بالحق، مثلما سيصعب على صنّاع القرار في المحيط القريب والبعيد تحديد سقف التعاطي مع القضية واستدعاء العقلانية إلى لغة الخطاب، لأن التطرّف عادة ما يكون ردّ فعل على قرارات جائرة.
النصر


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)