“يَا فَرْقَة دِيَارِ الأَنْدَلُسْ مَا هَانُوا عَلِيَّ…”
في غناء هؤلاء اللاجئين، وُجد الكثير من الشوق والحنين إلى ديار الأندلس وأهاليها وإلى ذكريات العيش العذب في حواضرها وأريافها، وفيه أيضا البكاء على ما مضى بها وما آلت إليه الحياة فيها…
ولا يزال صدى هذا الحنين والشوق، وارتدادات البكاء والشجن، تتردد في سماء الجزائر أثناء الأعراس والأفراح، كما في قاعات العروض الفنية والحفلات الغنائية وخشبات المسارح عبْر مختلف مدن البلاد على غرار قاعات ابن خلدون وابن زيدون والمُقَارْ ومسرح محي الدين باش طارزي في العاصمة الجزائر، مِثْلها مِثْل بقية المدن المغاربية؛ من المغرب الأقصى إلى ليبيا.
وليس صدفة إذن أنْ يكون أحدُ أشهرِ “الاستخبارات” الأندلسية في الجزائر وأكثرِها تأثيرا في القلوب هو هذه الأبيات لشيخ المتصوفين الأندلسي – التِّلِمْسَانِي أبي مَدْيَنْ شُعَيْب الغوثي:
متى يا عُرَيْب الحيِّ عينـي تراكمُ * وأَسْمَعُ مِنْ تلك الدِّيــــارِ نِدَاكُمُ
ويجمعُنا الدَّهر الذي حـالَ بيننــا * ويحظى بِكُمْ قَلْبِي وعَيْنِي تَرَاكُمُ
أَمُرُّ على الأبواب مِنْ غَيْرِ حاجَةٍ * لَعَلّـِي أراكُـمُ أو أَرَى مَنْ يـَرَاكُمُ
أو هذا البيت من أغنية “يا أسفي عما ماضى” الذي يهواه بشكل خاص الحاج محمد الطاهر الفرقاني حيث يقول فيه:
“يَا فَرْقَةْ دِيَارِ الأَنْدَلُسْ مَا هَانُوا عَلِيَّ…”
أو هذه المقاطع كذلك:
تَحْيَا بِكـُمْ كُلُّ أرضٍ تَنْزِلُــونَ بِهَا * كَأَنَّكُمُ فِي بقـَـــاعِ الأَرْضِ أَمْطَارُ
وتشتهي العين فيكم منظرا حسنا * كأنكم في عيـــون الناس أزهارُ
ونورُكم يهتدي السَّــاري لِرُؤيتِه * كأنكم في ظــــلامِ الليـــــل أقمارُ
لاَ أَوْحَشَ اللهُ قلْبِي مِنْ مَحَبَّتِـــكُم * يَا مَنْ لَكُمْ في الحَشَا عِزٌّ ومِقْدَارُ
أو هذه الأبيات أيضا التي تُعَدُّ من أجمل الاستخبارات وأكثرها شعبية في الغناء الأندلسي لدى مختلف المدارس الجزائرية من تلمسان إلى الجزائر العاصمة وقسنطينة:
سلامٌ على الأحبـــــابِ * في القربِ وفي البعدِ
سلامٌ عليهم كـَــــمــَـــاهَـــــبَّ النسيــمُ على الـوردِ
تَوَحَّشْتُكُمُ وَقَدْ طالَ البُعد بيننا * لكنَّ حُكْمَ الإلهِ يقضي على العَبْدِ
أو الموشح الشهير في كامل الأقطار العربية الذي ألَّفه الشاعر الأندلسي لسان الدين بن الخطيب وأَّدَّاه ببراعة المطرب الحاج محمد الطاهر الفرقاني بأسلوب المالوف القسنطيني:
جادك الغيثُ إذا الغيثُ همى * يازمانَ الوصلِ بالأندلــــــــسِ
لم يكن وصلُك إلا حُلُمَــــــــا * في الكرى أو خِلسةِ المُخْتلِسِ
وفي المالوف القسنطيني/العنّابي، ما زال الفنانون يتغنون بأبياتٍ شعريةٍ قديمةٍ توحي أجواء مضمونها بأصلها الأندلسي، عى غرار هذا المقطع:
تالله لقد سمعتُ في الأسحـــــار * عن جارية تجنس في الأوتارْ
تُنشِد وتقول في معاني الأشعار * مَن عذَّبَ عاشقا فجزاؤه النارْ
أو ما قاله الشاعر الأندلسي ابن خفاجة:
يَا أَهْــــلَ الأَنـْدَلُسِِ للهِ دُرّكُمُ * ماءٌ وظـلٌّ وأنهـــارٌ وأشجارُ
ما جنة الخُلْدِ إلاَّ في دِيارِكُمُ * ولَوْ تخيرت هَذي كُنْتُ أخْتارُ
https://www.youtube.com/watch?v=0mn7udbA9pA
وقد اختار الشيخُ العربي بن صاري وجوقُه التلمسانيُ هذيْن البيتيْن لابن خفاجة، بما يتضمناهما من وصف بليغ وقوي لِجِنان الديار الاندلسية بمياهها وأنهارها وأشجارها وظلالها، لأدائهما على الأنغام الأندلسية خلال العرض الغنائي الجزائري الذي قدموه في مؤتمرِ الموسيقى العربية في القاهرة عام 1932م…
ومن بين هذه الأطلال الشعرية – الموسيقية الأندلسية التي لا تزال قوية الحضور في الفلكلور الجزائري، يمكن أن نذكر أيضا أغاني تتغنى بـ: “قَنْطَرَة شَانِيلْ” الأندلسية الشهيرة، وأخرى على غرار “رِيمٌٌ رَمَتْنِي شُغِفْتُ بِهَا” التي من بين أحد أبياتها “أَهْلُ الأَنْدَلُسْ يَفْهَمُون ِالإِشَارَة، ولا يعرف الحرب إلا النصارى”، أو حتى ذلك الزجل الذي غمره الزمن وكاد أن ينساه الناس قبل أن يعيد الحاج محمد الطاهر الفرقاني بَعْثَه في الذاكرة الجماعية في الرّبيع الموسيقِي لعام 1996م بالجزائر العاصمة والذي مطلعه “زَادْ شِي عَنْ شِي” والذي كان يُتَغَنَّى به في الأندلس في الحُقول مرفوقا بالتصفيق وِفْقَ إيقاعٍ مُتصاعد السُّرعة…، إلى غير ذلك من المقطوعات الغنائية العتيقة.
ولعل من بين هذه المقطوعات الغنائية التي تُغنِّي الشوقَ والحنين إلى رحاب الأندلس وطيب العيش بين ربوعها هذا الزجل الذي يحمل عنوان “يا أسفي” والذي ما زال يتردد صداه منذ قرون لا سيما في مدينتيْ الجزائر وقسنطينة:
يَا أَسَفِي عَلَى مَا مَضَى عَلَى زَمَانٍ انْقَضَى أَيَّامِ الزَّهْوِ وَالرِّضَى
عَدِّينَا عَشِيَّة يَا فَرْقَةْ دِيَّارِِ الأَنْدَلُسْ مَا هَانُوا عَلِيَّ
عَدَّيْنَا لَيَالٍ مِلاَحْ فِي غَرْنَاطَة بَلَدِ الاِنْشِرَاحْ ثَمَّة لَقَيْتُ المِِلاَحْ
تَاهُوا عَليَّ يَا فَرْقَةْ دِيَّارِ الأَنْدَلُسْ مَا هَانُوا عَليَّ
يَا رَبِّي بِفَضْلِكْ نُرِيدْ نْزُورْ المَقَامَ السَّعِيدْ اجْمَعْنِي مَعَ مَنْ نُرِيدْ
فِي سَاعَة هَنِيَّة يَا فَرْقَةْ دِيَارِ الأَنْدَلُسْ مَا هَانُوا عَليَّ3
https://www.youtube.com/watch?v=A83BiML2Hj8
لكن صدى هذا الحنين والشوق إلى الديار الأندلسية لدى اللاجئين إلى “برِّ العدوة” أصبحت له بعض الارتدادات أيضا في باريس ومونتريال وفي القدس وتل أبيب في أوساط الجاليات اليهودية السفاردية، أي الشرقية الأصول والتي ينحدر جزء هام منها من أصول أندلسية. وبالتالي لا يمكن لأي متتبع لهذا الفن الأندلسي تجاهل أصوات كل من إميل زْرِيحَانْ في ما أصبح يسمى اليوم “دولة إسرائيل” وسيمون الباز في باريس، وسامي المغربي في كندا، ورينات سلطانة داوود وموريس المديوني و لِيلِي بُونِيشْ والإخوة النَّقَّاش وأبيهم ألِكْسَنْدْرْ جُودَا النقاش وغيرهم…”.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 25/09/2017
مضاف من طرف : nemours13
صاحب المقال : فوزي سعد الله
المصدر : فوزي سعد الله: يهود الجزائر، مجالس الغناء والطرب. دار قرطبة. الجزائر 2009م.