تعدّ عوالم محمد الماغوط، الشاعر والمسرحي السوري (2006-1934)، من أشدّ العوالم سوداوية في تاريخ الشعر العربي، ومن المتعذر العثور في إبداعاته على خيط يقود إلى شبه السعادة. لقد كان أحد رواد القصيدة النثرية الذين همشهم النقد والأيديولوجيات المتفائلة والأكاديميات لأسباب تتعلق بمواقفه “الحادة" التي سارت في وجهة مضادة للواقعية الاشتراكية التي كانت تخطط للكتابة. أما هو الذي اعتمد على عينيه وعلى معايشاته، فقد وجد ضالته وفق تصوّره: السخرية اللاذعة من الذات والمحيط والتاريخ والزعماء والسياسة وبؤس الأنظمة.
ثمة في نصوصه إرث مهمّ قوامه الحصار والهزائم والصدوع والكائنات السريالية والمطاردات. وإذا كان الشاعر قد حدد بوضوح معالم طريقه، دون تردد، فلأنه تأكد من طبيعة المراحل وما يحيق به من زيف لا حدّ له. كانت الأمور محسومة من منظوره، ولا شفاء، كما يعبّر عن ذلك في كتابه “سأخون وطني": “أمة بكاملها تحل الكلمات المتقاطعة وتتابع المباريات الرياضية، أو تمثيلية السهرة، والبنادق الإسرائيلية مصوّبة إلى جبينها وأرضها وكرامتها وبترولها...".
تلك حالنا. لقد بحثت في كل كتاباته مجتمعة عن ذرة فرح، وعبثا حاولت. كان الشاعر واضحا في ديوانه الموسوم “الفرح ليس مهنتي". وعندما يتحوّل الفرح إلى مهنة تصدأ الكرامة وتغور. ربما كان الشاعر مساوٍ لنفسه تماما، لها ولرؤيته، إذ لا يمكن الهرب من الظلام بالجري الحثيث في الظلام. لا يوجد في العالم العربي برمته ما يدعو إلى ذلك. يقول سأخون وطني: “الإيطالي يأتي بحجة من دانتي، والفرنسي يأتي بحجة من فولتير، والألماني يأتي بحجة من نيتشه، أما أيّ مسؤول عربي، فلو اختلفت معه حول عنوان قصيدة، لأتاك بدبابة فتفضّل وناقشها. ولذا صار فم الإنسان العربي مجرد قنّ لإيواء اللسان والأسنان".
وهذي حقيقة أخرى. ليس لمحمد الماغوط سوى حقائق من هذا الصنف الذي يوقظ الحجر.ومن يكتب بهذا الحزن الفصيح لن يجد من يصدقه في أوطان المذلة وتزكية الشيطان ما دامت هناك مؤسسات متخصصة في إنتاج علب السعادات العارمة وتوزيع فرح الدنيا والآخرة بالتساوي. ما عدا إن تكلمت: “لكي تكون شاعرا عظيما يجب أن تكون صادقا، ولكي تكون صادقا يجب أن تكون حرّا، ولكي تكون حرّا يجب أن تعيش، ولكي تعيش يجب أن تخرس".
يجب أن تخرس. ذاك استنتاجه بعد تجربة متميزة في كتابة الشعر والمقالات الصحفية والمسرحيات والنصوص والسيناريوهات والتمثيليات، وبعد حياة من التسكع والسجن والفقر والبؤس، كما تبين الرسائل الموجهة لأخيه. لكن ذلك لا يبدو مركز اهتمامه الوحيد. لقد كان انتماؤه إلى هذه الأمة العظيمة ذا تأثير واضح على كتاباته. لم يكن بمقدوره أن يكون مجرد مواطن من الشام، لذا كتب بمرارة استثنائية عن فلسطين ولبنان وسورية والبلدان العربية، وبالألم ذاته.
إنني عادة ما أضع خطا تحت الأشعار التي يقال عنها إنها عظيمة. ولأن المركزيات والدعاية قد تفعل فعلتها، فإني أهتم بوضع النص المقهور، الشعر المنسي، وأجد فيه ما لا أجده في الهالات. ومن هذا الشعر المنسوج بمهارة ما كتبه محمد الماغوط في دواوينه كلها، من “حزن في ضوء القمر" مرورا بديوان “غرفة بملايين الجدران"، وصولا إلى “الفرح ليس مهنتي".
في أشعاره عراجين من الأخيلة المتدلية على الكلمات والأبيات، وهناك توالد مكثف للصوّر والاستعارات المفارقة باستمرار، تلك التي لا يمكن أن نتوقعها أبدا. لقد بنى نصوصه على هذه الهوية التي تتطلب نشاطا ذهنيا وبحثا في المتداول والشاذ وطبقات الخيال الخبيئة. لذلك لم يكن لا تكرارا ولا امتدادا آليا لمنظومة القول. ولم يكن صنو أحد. لا يشبه ابن الرومي في هجائه ولا الحطيئة في سخريته، ضياعه من طينة وضياع رامبو من طينة أخرى، لا يشبه صوّر والت وايتمان ولا حكمة طاغور ولا عقوق أبي نواس ولا رمزية بودلير أو عبث كافكا أو سخط مظفر النواب في وترياته الليلية وفي المساورة. وهنا مكمن قوته وأصالته التي لا تشوبها نصف شائبة. وقد تكون هذه الميزة من ضمن الميزات الكثيرة التي جنت عليه.
«أيها الحارس العجوز يا جدي/ أعطني كلبك السلوقي لأتعقب حزني/ أعرني مصباحك الكهربائي/ لأبحث عن وطني/ من أزقة طويلة كسياط أجدادي/ آتي إليك/ والاستغاثات مصطفة في حنجرتي كالمجاذيف/ لأشكو لك الغبار والجماهير/ الليل والزهور والموسيقى/ لأشكو لك ذلك الرصيف..".
الحزن، في الحقل المعجمي بأسره، هو الكلمة الأكثر تواترا، بمبررات سياقية وعلل مقنعة إلى حد كبير، رغم أنها ليست ضرورية دائما. لكن الحزن، في نهاية الأمر، هو كوكبه ومنبته وأفقه وقدره. ولذلك يؤسس عليه ويتخذه متكأ: “فليذهب القادة إلى الحروب/ والعشاق إلى الغابات/ والعلماء إلى المختبرات/ أما أنا/ فسأبحث عن مسبحة وكرسي عتيق.../ لأعود كما كنت/ حاجبا قديما على باب الحزن".
وقد تسوّغ هذه الحالة، المتشبثة به منذ ولادته، مجموع ردود الأفعال التي تبدو غريبة وغير منطقية، رغم أنها ضرورية في أوطان غير ضرورية دائما، أو هكذا يتخيلها الشاعر. ومهما ما يبدو من علامات غريبة وشاذة، إلا أنها تغدو علاجا ناجعا في سياقات البؤس الأعظم: “أتمنى أن أمسك هذه الأرض من جلدها/ وأقذفها كالهرة من النافذة/ ولكني وأنا أحتضر/ وأنا أسبح في قبري كالمحراث/ سأموت وأنا أتثاءب/ وأنا أشتم/ وأنا أهرّج/ وأنا أبكي...".
ليس له متسع من الكذب الفطري والأوهام النفاثة كي يرى الغراب حمامة. إنه أسود من كل الجهات، إلى غاية الرحم، مظلم عن آخره، كالبلد وأباطرته، وكالأوطان الملعونة التي تصدّر أخيارها إلى العزلة والموت. لا شيء يوقظ الأمل المختبئ هناك في أوحال النفس حيث الخوف من الكلمة والظل والمسبحة. كل شيء فاسد ومضلل، وليس للإنسان سوى سقط متاع وما تيسر من بقايا الأعضاء في ممالك شاسعة كالقبور: “وطني أيها الذئب الملويّ كالشجرة إلى الوراء/... إليك هذه الأظافر المدخرة/ في نهاية الأصابع كأموال اليتامى/ بها سأكشط خطواتي عن الأرصفة/ سأبتر قدميّ من فوق الكاحلين/ وألقي بهما في الأنهار".
حالات سديمية تعقبها حالات أخرى أكثر سديمية وتأزما، وعبثا أيضا، وليس من باب الإدعاء الزائف أن يسترسل الشاعر في توليد الصور والتشبيهات المفارقة التي تستدعي ملكة وجهدا للتنقيب عن أغربها وأكثرها تأثيرا. وستصبح الكتابة عندئذ ورشة مفتوحة لشحذ الأشكال والصيغ التي لا يتوقعها القارئ أبدا، لأنها عدولات متراكمة، لا متناهية، ساخرة إلى أبعد حدّ، مثيرة ومؤلمة جدا.
«إني ضجر يا مولاي/ أرسلني مع بضاعتك وقبعاتك إلى مكان آخر/ اكتب اسمي على حوافر جيادك/ واركض بي كالصاعقة فوق الصخور/ فالرمال في بلادي لا تجيد القراءة/ والغبار لا يحب عيون الأطفال".
المقاطع الشعرية كلها مبنية على الانزياحات، الوحدات النصية لا يربطها رابط منطقي، الانتقال من صورة إلى صورة ومن فكرة إلى فكرة انتقال مباغت، الأخيلة متنافرة ظاهريا، ورغم ذلك فهناك وحدة جامعة تؤلف ما بين الأجزاء والموضوعات لتنقل حالة معقدة من اليأس والإحباط. وبأية طريقة...
لقد ظل طيلة ما يشبه الحياة مسكونا بظلال الحرية وبالشعر، وببعض الحلم الذي لن يتحقق أبدا، سواء في القصيدة أو في الواقع، بيد أن الوطن ظل في الواجهة. لقد كان غريبا فيه وبعيدا عنه، يصوّره بأبلغ الأحزان، بكل طاقاته البلاغية والاستعارية، لكنه، رغم ذلك، لا يجد العبارات إلا ليتجاوزها. ويبقى غريبا في الكلمات، متذمرا ورافضا:
«هل تضع ملاءة سوداء/ على شارات المرور وتناديها يا أمي/ هل ترسم على علب التبغ الفارغة/ أشجارا وأنهارا وأطفالا سعداء/ وتناديها يا وطني/ ولكن أي وطن هذا الذي/ يجرفه الكناسون مع القمامات في آخر الليل؟".
أوطانه ليست أكثر من مستودعات مؤثثة بالرعب، إنه الشعور الوحيد الذي لازمه في كل الأوقات، ما دام الوطن العربي يستنسخ نفسه ولا يستثمر إلا في تشييد السجون التي تليق بالرعية، وطن يتكرر في تنويعاته، يتلون باستمرار وتبقى الأنوية ثابتة: الهم والقهر حيث يممت. وها هو المخرج الأول: “أمي.../ أسرعي لنجدتي/ تعالي وخبئيني في جيبك الريفي العميق/ مع الإبر والخيطان والأزرار/ فالموت يحيق بي من كل جانب.../ أتوسل إليك أن تسرعي يا أمي/ وأن تعرجي في طريقك / على الحصادين ومضارب البدو/ وتسأليهم عن “حجاب" جلديّ/ عن “عشبة"ما/ تقيني هذا الخوف".
ولأن أرصفة الوطن كلها لم تعد جديرة بالوحل، فها هو الحل الآخر الذي يبدو أكثر فاعلية:
«ضعوني في مؤخرة العربة/ على ظهرها/ فأنا قرويّ ومعتاد على ذلك.../ كلّ ما أريده هو الوصول/ بأقصى سرعه إلى السماء/ لأضع السوط في قبضة الله/ لعلّه يحرّضنا على الثورة".
لقد بلغ مرحلة متقدمة من العصيان والعبث، لذا تبدو بعض أفكاره غريبة وصادمة أحيانا.هل كانت هذه الأوطان التعيسة سببا في ذلك؟ بالتأكيد. لا يمكن نكران مؤثرات ذلك، إن لم تكن السبب الوحيد والمباشر. الأوضاع العربية أتعبت إنسانا وخلقت شاعرا موهوبا اسمه محمد الماغوط.
تقفيلة مفتوحة: إذا كانت الأنظمة العادلة والأنظمة الجائرة تريد التأكد من وضع المواطن تحت سلطتها وسوطها وسطوتها فلتقرأ الشعر ولا تغفل شعر هذا اللعين رغم أنه لا يمدح الفراغ والغبار. وإذا كان علماء النفس وعلماء الاجتماع والبلاغة والطب الشرعي وغير الشرعي معايرة الأفراد والنصوص للكشف عن الأمراض والتمفصلات فها هي العينة المثالية لاقتصاد الوقت والجهد: المرحوم محمد الماغوط هو ممثلنا نحن المرضى في أوطاننا الجميلة حدّ القبح. عليكم بشعره لمعرفة حالة الرعية ونواياها السيئة، وعليكم بنصوصه لتذوّق الخيال الشعري المثير. إنه واحد من دمنا، ومن هذه العروبة الموحدة التي قال عنها ذات يوم: إن الوحدة الحقيقية القائمة بين العرب هي وحدة الألم والدموع.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 03/12/2012
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : السعيد بوطاجين
المصدر : www.djazairnews.info