الجزائر

سلطان الوهم



سلطان الوهم
يتمدّد ويمدّ جذوره في تضاريس جغرافيات الفضائي والافتراضي والمكتوب... يتمدّد مزخرفا وملونا وموشحا بعناوين مشحونة بالضجيج والبريق.
المثل الفرنسي يقول بأن البراميل الفارغة هي التي تحدث الضجيج... ضجيج الضخ الذي لن يثمر إلا الهباء، والهباء هو منتوج الوهم المتسلطن.
إن التحولات التي تسارعت عرفت انتشارا مذهلا للوسائط التواصلية والاتصالية، ومع انتشارها فاضت التفاصيل التي يضيع معها الخيط الواصل والرابط...
هيمن المشهد والتمشهد، هيمنت الصورة ومعها هيمن التسليع لتسويق التفاصيل، تسليع بانفلات المعنى، هيمنة بتدافع منفلت لأسماء تم تكريسها كخبراء ومحللين في الفضائيات، خبراء يشار إليهم كمختصين في مواضيع الراهن كالجماعات المسلحة والإسلام السياسي... كما عرف مجال الفتوى اقتحام أسماء لا تعد ولا تحصى... وخرجت الكثير من الكتب عن الأحداث المتسارعة في المنطقة وتدافع البعض بانفلات ليقتحموا المجال بفوضى كثفت التخبط في المتاهات وضاعفت من الضخ المؤجج للفتن.
شحن للصادر والمنشور والمبثوث، شحن منفلت بالمغالطات وبالمعطيات المشكلة بالتدليس... شحن يلغي التدقيق ويركب موجة الترهين والراهن برهن كل مقومات الأخلاقيات المعرفية.
إن في الكثير مما يجري تداوله تكثيف للتجهيل، تجهيل منتج لكل أشكال الجهالات، بضخ مؤجج لانفلاتات الحميات التي سميت قرآنيا بالحمية الجاهلية، وهي ذات الحمية التي ظهرت فاشية ونازية فبلورت الكوارث التي عاشتها الإنسانية.. الحمية المذكورة تتعولم في عالم اليوم وتجعل النسق كما كتب الدكتور عبد الله غذامي: “في حالة تربص دائمة ينقض متى ما حانت له الفرصة وهذا ما يحدث دائما ويحرف الجميل الثقافي إلى قبح نسقي". التحوّلات التي عرفتها البشرية وما أفرزته من تطور مذهل لتكنولوجيات الإعلام والاتصال، بلورت معطيات أثرت على التمثلات والتشكلات، فالوسائط التواصلية التفاعلية انبثق عنها البعد الافتراضي، انبثاقا أفرز واقعا تبددت معه الفواصل الزمكانية. الصورة المتموجة شحنت النفوس والأذهان فكان الشحن بما أنتج نسقا يتشكل بجدل جامع بين الانفتاح والارتداد. يكتب الغذامي عن ذلك قائلا: “وكلما ازداد المرء انفتاحا ازداد انغلاقا، وهذا ما تكشف عنه الوقائع المعاصرة، حيث نرى ظهور الصورة الكونية عبر التلفزيون وانفتاح الخطاب عبر الإنترنيت ونرى بجوار هذا كله حالات من النكوص إلى الهويات الأولى ونرى البشر ينزعون نحو خصوصيات بعضها كان مسكوتا عنه أو منسيا أو محايدا ثم تحوّل المحايد والمنسي إلى معنى مركزي وقيمة معلنة وجاهر كل امرئ بمكنوناته حتى لم يعد يستحي من انحيازاته بل صار يدعو لها ويبرهن عليها، وهذا كله نوع من الاستجابات الأسطورية المنبعثة من الخبرة الأولى كجواب على تحديات تواجه الإنسان. ويذكر: “إن الكلمات الأكثر تواترا في التداول اللغوي المعاصر هي كلمة (التخوف)" وهذا ما تحمله نتائج ثقافة الصورة التي كلما زادت كما يقول: “زادت معها المخاوف، ومن ثم زاد اللجوء إلى الحلول الأسطورية بغية حماية الذات". و«كلما زاد الكلام الإعلامي عن الاحتباس الحراري وخطره على البشر، زاد مقابل ذلك احتباس نفسي ذاتي يدفع إلى الركون للظل الواقي، وإن كان وهميا".
وأشكال وكيفيات التدليس تبدأ وتنطلق من قاموس الخطاب المتداول ومن العلاقة بالمصطلحات، علاقة تبدو مُرضية بالفوضى التي تعمّ البلدان العربية، فوضى تكرّس حالة الانفصال عن العصر وتكرّس البعد عن تحقيق الشرط الضروري للتواصل والتوصيل المعرفي، فالمصطلح هو الرأسمال الأساسي... والمصطلح متصل بالتسمية التي هي استراتيجية سلطة كما حلل ميشال فوكو بدقة وروعة في أطروحاته.
الفوضى تتفاقم بالسحب المستمر للمصطلحات من أرصدتها، سحبا يعزلها عن سياقات تشكلها وعن أنساقها وبنياتها الإبستمولوجية ومرجعياتها الحضارية وشبكات علاقاتها الأنثربولوجية ومضمراتها وشيفراتها العقائدية والإيديولوجية وحمولاتها التاريخية، والحصيلة تخبط وتلبس بالتيه والضياع.
فوضى بالإسقاطات المتعسفة والمصادرات المجحفة، فوضى نرصدها في التشبيهات المتهافتة التي تنسف التاريخي وتنمط فتأتي بصيغ من الماضي لتعنون بها الراهن، تستقدم الخوارج والمرجئة لتتحدث عن جماعات حالية، استقداما يقفز على كل الفواصل التاريخية بحيثياتها وملابساتها المختلفة.
فوضى بالتعميمات والتعميم تعمية... تعميم بالإشارات المتداولة بترديد صيغ جاهزة دون التمكن من استيعاب الحيثيات والحقائق كالذين يتحدثون عن الوهابية، دامغين بدمغتها كل من يعتبرونهم سلفيين.. أو يدخلون في التحزّب لأسماء ومعارك ضد أسماء من المرجعية التراثية فيوظفون اسم ابن رشد لمواجهة ما يصفونه بالظلامية ويصفون أبي حامد الغزالي بالظلامي ويعتبرون ابن تيمية مرجع التطرف... منذ سنوات أشار المؤرخ محمد حربي في حوار لأسبوعية “الخبر الأسبوعي" إلى أن البعض يكتب في يومية “الوطن" مقالا ينتقد فيه ابن تيمية وهو لا يعرف ابن تيمية ولم يقرأ له.
فوضى بكتابات تحمل التمظهر بالبحث والدراسة، وهي لا تحمل أي مقوم من مقومات البحث والدراسات كما هو شأن من قدموا أعمالا عن التيار الإسلامي وجماعاته في الجزائر، وهم لا يحيطون بالحيثيات والخلفيات والمرجعيات... كتبوا باستنساخ تقارير أمنية أو بيانات دعائية فصرنا نقرأ تسطيحات مضحكة كربط الإرهاب مرة بمالك بن نبي أو بملتقيات الفكر الإسلامي أو بمسلسل جمال الدين الأفغاني... أو نقرأ عن صيغة تربط البعثي بالإسلامي وما على شاكلة ذلك من تشبيهات. والوضع نفسه يحضر في التعاطي مع بقية المواضيع. تسطيحات تربط ما يحدث بالآخر وتتحدث عن السلفية دون التمييز بين تفرعاتها ودون التحري عما يتصل بها، وتتحدث دون أن تفرّق بين الجماعات التي نشطت وتنشط في الساحة.
إن الثقافي خضع للتكتيك السياسي والتموقع الحزبي والتخندق الإيديولوجي، خضوعا لآليات التأويل المنتصر لما هو غير علمي، آليات الانتصار للقبيلة وللحزب والطائفة والتيار، آليات دفعت إلى المصادرات الشنيعة، مصادرات بتوثين شخصيات وطبعها بطابع القداسة، وبشيطنة أخرى وختمها بأختام الأبلسة... مصادرات جعلتنا في الجزائر نختزل مالك حداد في جملة: “الفرنسية منفاي" ونختزل كاتب ياسين في: “الفرنسية غنيمة حرب"، أو نروّج لقراءة مبتورة لطرح مالك بن نبي عن القابلية للاستعمار أو لطرح هواري عدي عن التراجع المخصب... أو نقرأ لأحد الكتاب المتأثرين بجمعية العلماء مقالا ينكر فيه حقيقة أن مصالي الحاج هو رائد التيار الوطني الاستقلالي ويزعم أن الريادة لابن باديس ونقرأ لكاتب آخر بأن اليهود هم من صنعوا أغنية الراي.
والطامة تحدث لما تتجمّع التورمات المتراكمة بالعطب المستديم، تورمات الماضي وتورمات الراهن، تورمات تكثف التفسخ.
وبهذا الوضع ظلت القبيلة متجددة، وظل سلطانها حاكما، فعشنا زمن دعاة اختلاف لا يتقبلون المختلف، ينغلقون في السياج المغلق، ينسجون خطاب الصدى ويؤدون دور الطيف.
ونختم هذا المقال المختصر بإشارات لها دلالتها في هذا السياق:
في مطلع تسعينيات القرن الماضي أعادت أسبوعية “الحدث" التي كان يصدرها الكاتب والصحفي أحميدة عياشي حوارا أدلى به جيل كيبال، وفي الحوار أشار كيبال إلى نقطة مهمة هي أن فرنسا أخطأت لما اعتمدت على مثقفين جزائريين يجهلون حقائق مجتمعهم.
الصحفي المعروف عادل حمودة مسؤول جريدة “الفجر" المصرية ذكر مرة في إحدى مقالاته أثناء الأزمة الكروية التي نشبت بين الجزائر ومصر بأن القاهرة استضافت بن بلة بعد الإطاحة به... ولا أدري كيف يكتب صحفي في مستواه هذا الأمر الذي لا أصل له.
في افتتاحية عدد 10 نوفمبر من مجلة المجتمع الإخوانية الكويتية كتب مدير التحرير شعبان عبد الرحيم موضوعا بعنوان: “أحمد طالب الإبراهيمي.. مهمة فاشلة بامتياز" وتكرر اسم طالب الإبراهيمي أكثر من مرة.. في حين أن المقصود هو لخضر براهيمي، وإذا كان مدير تحرير مجلة لا يفرّق بين الشخصيتين ولا يعرف اسم لخضر براهيمي، فإن الأمر لا يحتاج إلى تعليق.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)