تاريخ الزوايا في الجزائر ليس بالأمر الجديد فهي تعود للفترة العثمانية و قبلها و قد انتشرت الزوايا و فروعها عبر التراب الوطني و لكل ارثها التاريخي و تقاليدها و اعلامها و شيوخها و طرقها إلا أنها في الواقع اجتمعت في غالبيتها حول تربية وطنية و عبادة ربانية ، كرست معالم الدين الإسلامي الحنيف بتسامحه و معاملته التي ورثتها الأجيال عن السنة النبوية الشريفة كعقيدة جامعة للأمة الإسلامية في أقطاب العالم ، لذلك نجد بعض الطرق كالقادرية لسيدي عبد القادر الجيلاني من بغداد بالعراق استلهمت قائد المقاومة الجزائرية خلال رحلته للحجاز لأداء مناسك الحج فجاء محملا بعطر تلك الطريقة.
و رغم أن منشأ الأمير عبد القادر بالقيطنة و هي قرية قريبة من معسكر حيث كانت زاوية والده سيدي محي الدين ابن مصطفى الحسني فإن روحه ارتبطت ايضا بشيخه محي الدين بن العربي بدمشق في سوريا التي لجأ لها في رحلة قادته من بورسا في تركيا بعد إخلاء سبيله من أسره بسجون فرنسا الاستعمارية.
فرنسا التي حلت غير مرحب بجيوشها للجزائر لكن كتائب جيوشها الغاشمة كانت مرفقة ببعثات تنصيرية و هي التي سمحت لها كيفية معاملات الأمير عبد القادر مع أسرى الجيش المحتل و معهم أحد القساوسة المقبوض عليهم الذي أخلى ابن محي الدين سبيلهم بعد تدخل القس الأكبر بالجزائر العاصمة ” مونسينيار دوباش” احتراما للديانة المسيحية أن يحظى الأمير بمعاملة خاصة من الكنيسة في فرنسا بعد توقيفه. و الزوايا و طلابها كانت سباقة للوقوف في وجه المستعمر و هو ما قام به طلاب المدرسة المحمدية بمسجد المبايعة بمعسكر الذين انتفضوا ضد الغزو الاسباني لوهران بالمئات دفاعا عن تدنيس الارض المسلمة أو تعرض طلبة مدرسة قرآنية بعين المانعة بعين الحجر الى مجزرة جماعية أصبحت تسمى بأربعين شاشية.و قد لعبت الزوايا دورا كبيرا في الحفاظ على كتاب الله من خلال إيفاد طلابها لمختلف جهات الوطن لتعليمهم و تحفيظهم لذلك لا تخلو قرية أو دوار بالذكر أن اشترطوا لأبنائهم معلم قرآن جاء من أدرار مثل زاوية مولاي الطيب و من بشار مثل زاوية القنادسة لسيدي محمد بن زيان و سميت طريقته بالزيانية نسبة إليه أو بإستقدام هؤلاء المعلمين من المغرب الأقصى لتدريس الناشئة أو ذهاب الطلبة إلى هناك لتلقي العلوم الشرعية بفاس و الرباط و غيرها من المدن.
لعبت هذه الحركة الدينية دورا هاما في حياة الجزائريين بالرغم من أن بعضها بعد احتلال الجزائر حولت نشاطها الى دور تربوي تعليمي أكثر من أي شيء لما سلط عليها من قبضة حديدية و رغم ذلك انطلقت كل الثورات الشعبية من أولاد سيد الشيخ، إلى الشيخ المقراني الى لالة فاطمة نسومر من عقر هذه الزوايا و تمكنت من تجنيد الجزائريين حولها بشرعية دينية محضة تحارب الاستعمار و الاستيطان .و قد تميزت سعيدة قبل ثورة التحرير بأحداث ماي المشهورة التي اعتبرت زاوية مولاي الطيب إحدى قلاع الوعي الوطني في ثوب ثقافي يميز الاحتفالات و المناسبات الدينية انطلاقا من فيلاج بودية حيث درس بها العديد من معلمي القرآن منهم الشيخ مداني بلبالي و على بعد أمتار منها الزاوية التجانية لمقدمها الحاج أحمد عيمر و تقاسمتا نفس الدور الذي انتهى بعد اندلاع ثورة التحرير الى تقديم قافلة كبيرة من الشهداء و المجاهدين منهم الشهيد محمد عيمر نجل الشيخ المذكور من هذا الحي.و كون سعيدة تقاسمت اقليميا المنطقتين التاريخيتين الخامسة و السادسة فقد لعبت زاوية أولاد الحاج اعمر مرابط بإبنيه سي بوبكر و سي جلول بجبال سيدي دومة الغابية التي شهدت دار المرحوم لخضر رابح ميلاد تنظيم ثورة التحرير بالناحية الثانية من المنطقة الخامسة نهاية سنة 1954 و تحولت زاوية سي بوبكر الى مركز كبير مثل خيمة حيدة و منزل الشهيد رباق أكبر مركز و مزرعة أولاد الحاج جلول بيرش التي تعرضت للقصف صائفة 1956 خلال مقتل البطل الشهيد داود بركان و بوزيدي حليمة، و غير بعيد عن هذه الجهة الواقعة في أقصى غرب ولاية سعيدة فإن ساكنة دوار أولاد صحراوي تقاسموا الورد بين القادرية و الزيانية التابعة لسي عبد الرحمان بالقنادسة و تداول العديد من المقاديم منهم المرحوم بومدين امحمد ولد المقدم الذي كان والده قبله على الطريقة.أما أقصى شرق ولاية سعيدة و في حدودها الشرقية فقد لعبت الطريقة الهبرية لسي البودالي دورا مماثلا في التهيئة لثورة التحرير و احتضان ميلاد المنطقة السادسة.
…..لكن كيف اصبح ولد سيد البودالي قايد؟
حسب رواية لمجاهد جيش التحرير بن ربيعة بن ربيعة فإن جده الذي خاض ثورة ضد المستعمر بمنطقة بالول و اصبح مطاردا و قد نفي بعد إلقاء القبض عليه الى كاليدونيا فقد قدمت فرنسا مكافأة برتبة قايد لمن يدلي على مكانه ، إلا أنه و بعد إصابته اشترط نتيجة تسليم نفسه أن يمنح وسام القيادة لبوذريع لما يحظى به من احترام و كونه شخصية متزنة كرجل دين و علم يمكنه الحفاظ على عائلته هو أولا و على سكان المنطقة برمتهم فكان رأيه سديدا.
…زاوية سيدي البودالي….
تقع بالخريشفة ناحية عيون البرانيس بدائرة أولاد ابراهيم في الحدود مع تيارت أو تخمارت القديمة ، تشترك في الامتداد الشاذلي مع عديد الزوايا من داخل و خارج الوطن ، استقر فيها الشيخ مع أفراد عائلته و طلبته و الموريدين القادمين من كل صوب ، أما تكاليف العيش فمن ماله الخاص ، و تخصصت في تدريس الفقه و الشريعة ، كما ساهمت في نشر الأخلاق المحمودة و تلقين حب الوطن و هو ما برز على أفراد عائلته خاصة الإبن المجاهد سي المصطفى بوذريع ضابط جيش التحرير المدعو المعتصم.خلال سنة 1956 حل المرحوم يمني زيدور سي عبد الخالق مع حبيبي الميلود ، الشيخ عيشوبة و سي عبد الجبار مع كتيبة ، إلى مسكن المعتصم عند سي ابراهيم لتحضير الثورة و تسليم الأسلحة و إثر وشاية تحول المعتصم و معه قيادة المنطقة مع الإخوة بلحجار لحسن و عبد السعيد نحو عين معمر بجبل سيد البودالي بالزاوية الثانية ، أما الأولى فتعرض أصحابها للبطش و التعذيب.
مكنت المصداقية التي تشتهر بها زاوية سيد البودالي الى التحاق العديد من أبناء الجهة بصفوف جيش التحرير بعد العمل التنظيمي السري الذي تم آنذاك و كمنبع روحي توافد اقارب العائلة منهم الشهيدين بوخشة مولاي العربي و بن ابراهيم و المجاهد المتوفي البودالي و عائلة الشوارف سي عبد الغني و اخوته، سي أحمد بن نبي، بوخشة عبد العزيز ، نجادي محمد و مجاهدات منهن ليلى الطيب، الشريفة ، صليحة ولد قابلية ، مريم مختاري ثورية، نصيرة، مليكة و أخيها ادريس، و قد تكفلت الزوايا ماديا بتموين هذا المركز الأول لقيادة المنطقة السادسة.تعرضت الزاويتان بعد الاشتباه في نشاطاتها الى التفتيش و قد حرقت و سلط ابشع التعذيب على أصحابها و مضايقتهم ، عندها طلب ابن الشيخ بوذريع سي محمد و كان شابا الالتحاق
بالثورة لكن سي عبد الخالق رفض طلبه.
انتقلت الكتيبة المتمركزة هناك الى سيدي يوسف بالحساسنة مرورا بعيون البرانيس و قد إلتحقت بوذريع جميلة المدعوة حياة التي أصيبت في معركة واد العابد التي استشهد فيها مصطفى مولاي مع شهداء آخرين من قيادة المنطقة و القي عليها القبض هي مع رفيقتها دليلة ، كما التحق اخوها ذو العارفين و المعروف بالزعيم و هم ابناء سي المصطفى بوذريع بصفوف جيش التحرير و هم في ريعان شبابهم.
زاوية سيد البودالي كغيرها من الزوايا لعبت دورا تربويا و دينيا على مدى عقود عملتها الأساسية المحافظة على كتاب الله ، حب الوطن و الاعتدال و الوسطية في التعامل مما جعلها منارة إشعاع روحي و ديني تتشبع به الأجيال.
هي لا تختلف عن زاوية ايت يحيى بتيزي وزو التي من رحمها ولد أحد مفجري ثورة التحرير المرحوم حسين آيت أحمد أو الدا الحسين ، الذي أوصى بدفنه في زاوية أنشأها جده و تلقى بها تعليمه الأساسي و ذلك ما جعله مفخرة لأي جزائري في النضال و الدفاع عن الوطن و المطالبة بالاجماع الوطني و التمسك باصول و تقاليد جزائرية لم يستطع الاستعمار رغم مكوثه قرنا و ثلاثين سنة من التأثير عليها لأنها جزء من حياة الشعب الجزائري المكافح و المناهض لزرع البدع التي حاول هذا الاستعمار و أتباعه أن يلصقوها بالدور الاساسي للزوايا إلا أنه فشل كما فشل في حربه ضد جيش التحرير و من عززوا صفوفه من خريجي مدارسها القرآنية.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
مضاف من طرف : patrimoinealgerie
صاحب المقال : بقلم مرابطي بغداد
المصدر : بواسطة المغرب الأوسط في 2020/05/04