الجزائر

رسالة فخامة السيد رئيس الجمهورية "تلمسان" عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2011



رسالة فخامة السيد رئيس الجمهورية
إن اختيار المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة مدينة "تلمسان" عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2011، اختيار موفق لما تزخر به من تنوع تراثي ومعالم تاريخية ذات دلالة وشهرة تعبر عن الإبداعية الجزائرية الشاهدة على عظمة الحضارة الإسلامية في هذه الربوع، ولاشك في أن هذا الحدث يكتسي أهمية كبرى بالنسبة للجزائر تبرز مساهمتها ودورها في إثراء الثقافة الإسلامية، ولتكون كتابا مفتوحا نستعيد صفحاته الناصعة وما فيها من عبر، ونستخلص منها القوة والعزم والثقة في النفس، ولنبدي مكانة هذه المدينة العريقة وما قدمته من عطاءات فكرية وإبداعية وبطولات عبر مختلف الحقب والعصور، وذلك لتجديد وعي الأجيال بتاريخها وربطها بالمثل والقيم النبيلة لحماية خصوصياتنا وهويتنا، ثم لنظهر البعد الحضاري لامتنا لتثمين الأمجاد الإنسانية المشتركة والدفع بها لمواكبة العصر وتحدياته، لأن العالم سيتخطانا ويتجاوزنا ما لم نكن فاعلين في صنع ملامحه الجديدة بماضينا وحاضرنا وعبقرية أجيالنا وتطلعاتنا الواثقة إلى المستقبل.
"أغادير"، "بوماريا"، "تاقرارت"، "المنصورة"، "تلمسان"...أسماء لهذه الفضاءات الآهلة بالحضارات، إنها برهان التاريخ وعبقه، عناق الزمان بالمكان، الطريق إليها وعي يفيض بالمآثر والعبر، لقد كانت على مر العصور ساحة للتفاعل بين مختلف الأمم، فحيثما وليت وجهك يستقبلك الزمن بكثافته، وتراكماته عبر العديد من المعالم والآثار التي تشكل المورفولوجية العامة للمدينة بكل حضورها الطاغي المشكل لنسيج معماري فريد، يتوزع عبر حاراتها ومساجدها وزواياها ومدارسها وكل خصائص الانبجاس الروحي الذي تحقق عبر العلم والمكابدة والنسك للوصول إلى ينابيع الحقيقة.

إن تاريخ تلمسان يمتد إلى ما قبل التاريخ ولم يبدأ في القرن الثالث الميلادي مع الاحتلال الروماني بل بدأ مع سكانها الامازيغ ولقد تعرضت على مر العصور لحملات الغزاة الشرسة مما أكسب أهلها القدرة على تحمل الشدائد والاستبسال والمقاومة وظلت بذلك "تلمسان" صامدة تصارع عوادي الزمن، منتصبة تنحت يومياتها بإزميل الوقت وإرادة الإنسان.
لقد مرت تلمسان بعدة مراحل منذ أن فتحها أبو المهاجر دينار ثم عقبة بن نافع ومن جاء بعدهما، وأدت العديد من الأدوار وكانت عاصمة لدولة بني عبد الواد الذين امتد حكمهم لثلاثة قرون بالإضافة لحكم الادارسة والفاطميين والمرابطين والموحدين والمرينيين، وإن هذا الازدحام التاريخي مرده إلى موقعها الجغرافي الهام، وتعدد مواردها الاقتصادية، فقد كانت محطة للقوافل العابرة وسوقا لتجارة الذهب الإفريقي بحسب ما رواه بعض المؤرخين القدامى كالبكري وابن خلدون.
شهدت تلمسان في العصر الإسلامي حياة فكرية مميزة وازدهارا لمختلف العلوم والمعارف التي امتد إشعاعها إلى الحواضر الإسلامية الكبرى في المشرق والمغرب وقد استفادت تلمسان من هجرات العلماء القادمين إليها من قرطبة وغرناطة بعد سقوط الأندلس، فتعمق التحصيل وانتعشت التيارات الفلسفية والصوفية، وبرز الفكر الأشعري في المعتقدات والمذهب المالكي في الفقهيات، وكانت تلمسان بحق قاعدة سياسية وعلمية في المغرب الأوسط. ومن أهم العلماء الذين أناروا بمعارفهم الحياة الثقافية في هذه المنطقة "أحمد أبو العباس" و"أحمد بن يحي علي الونشريسي" و"القطب سيدي بومدين الغوث" و"الحسن أبو علي أبركان" و"شعيب بن الحسن الأندلسي" و"عفيف الدين التلمساني" و"أحمد المقري التلمساني" و"محمد بن إبراهيم العبدري" و"محمد بن عمر الهواري" و"محمد الإمام السنوسي" و"محمد بن مرزوق" و"محمد بن عبد الكريم المغيلي" و"محمد بن مريم التلمساني"، وغيرهم... إن وجود هذا العدد الكبير من العلماء والأدباء والفقهاء لم يكن مصادفة، وإنما لما كان يقوم به الأمراء والسلاطين من محبي الأدب والعلم من رعاية لمختلف العلوم والفنون، أمثال السلطان ابن تاشفين، وأبي حمو الزياني الثاني صاحب كتاب "واسطة السلوك في سياسة الملوك"، والسلطان يغمرا سن الذي جعل من تلمسان قبلة لطلاب العلم الذين قدموا إليها من مخالف البقاع والأصقاع، وكان هؤلاء الحكام يجزلون العطايا للعلماء، ويشجعون التأليف واقتناء الكتب، ويحرصون على حضور بعض الحلقات والمجالس العلمية التي تدار فيها المناقشات والمناظرات، فازدهرت بذلك المعارف النقلية والعقلية، كالفقه والمنطق، والتصوف والهندسة والجبر والفلك والموسيقى والفلاحة وغيرها...

وتجلى أثر الرفاه الاجتماعي والاقتصادي في الحياة العامة للناس فأتقنوا الحرف والصنائع، وتفننوا في الموسيقى والعمران وأنشأوا المنتزهات والقصور، وشيدوا الأبراج والجسور وهو نتاج طبيعي للتعايش الايجابي بين مختلف الأجناس والأعراق، ديدنهم التفاهم والتسامح الديني مسلمين ويهودا ومسيحيين وهم الذين اتخذوا من "تلمسان" مأوى ومستقرا وانصهروا في مشروعها الحضاري السمح المتفتح على الآخر، واندمجوا جميعا في تقاليدها وثقافتها.
ومن أبرز المعالم التاريخية العديدة، التي ما تزال باقية إلى الآن تقارع الأحقاب والدهور بسمتها ووقارها، نذكر من بينها "الجامع الأعظم"، "مسجد سيدي بومدين"، ""المشور، "موقع أغادير"، "المنصورة"، "الجامع الكبير بندرومة"، "جامع سيدي الحلوى"، "جامع سيدي براهم"، "جامع سيدي بلحسن" وغيرها ... ونتساءل الآن:
هل يكفينا استعادة بعض الأعلام والمعالم لتقول "تلمسان" كل بوحها؟
حتما لا، لأن تراكمات الزمن أوسع من أن تكتبها أو تسعها الكلمات، ولكن ونحن نقف اليوم أمام هذه الانجازات التي تبدو على امتداد النظر فوق تضاريسها وسهولها لا نملك سوى أن ننخرط معها في كيانها وهي تثب بخطى جريئة لتجديد يومياتها، لأن الوعي بالتاريخ، يبدأ بتجذير عناصر الهوية بعيدا عن الانغلاق والانطواء العقيم.
وها هو وجه المدينة يسترجع بهاءه عبر الترميمات العديدة التي مسّت البنايات العتيقة التي تبدو بسيطة في قسماتها ولكنها مضيئة بخطوطها وعمقها وهي تقف الآن جنبا إلى جنب مع البنايات الجديدة ليتعانق الماضي والحاضر في تناغم ساحر، وإن هذه التظاهرة هي موعد آخر مع التاريخ والإنسان، لتتمكن شعوبنا الإسلامية من التصالح مع ذاتها لتقود قاطرة التنمية الثقافية وتحوّلها إلى مقابسات فاعلة، ولا تكتفي بالوقوف عند العتبات بل ينبغي أن تتحول هذه الفعاليات إلى درب نوراني بجوهر مسيرتنا الطافحة بالأمل والتفاؤل لتعزيز أمننا الثقافي،
وبذلك فإن هذا الحدث سيكون فرصة لتأمل المفاصل التاريخية الحاسمة لنقتبس منها قيم الحرية والمحبة والتسامح ونرتقي بها معارج التمدن الذي سنته حضارتنا الإسلامية الخالدة.

عبد العزيز بوتفليقة
حرر بالجزائر في يوم 29 ذي الحجة 1431ﻫ
الموافق 05 ديسمبر 2010 م



سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)