تعدُّ الجنسية الأداة القانونية لضبط أحد عناصر الدولة التكوينية وهو ركن الشعب فيها، وهي الوسيلة المعترف في القانون الدولي لتوزيع سكان المعمورة على الوحدات السياسية فيها. وتعرَّف قانونا بأنها انتماء الفرد قانونا لشعب الدولة، ويترتب عليها آثارٌ قانونية وسياسية على الصعيدين الدولي والداخلي لطرفيها معا، الفرد والدولة.ولكن حقيقة الجنسية وجوهرها الاجتماعي والسياسي والنفسي هي ولاء الفرد للدولة التي يحمل جنسيتها وإخلاصه لها وتفانيه في خدمتها وتضحيته من أجلها. وعلى ذلك يفترض أن مزدوج الجنسية موزع الولاء بين الدول التي يحمل جنسياتها. ولكن في قرارة نفسه في الأوقات الحاسمة والمصيرية سوف تتضح حقيقته بترجيح ولائه للدولة التي يرتبط بها نفسيا ونفعيا أكثر من غيرها، مفضلا إياها، لأن الولاء في حقيقته علاقة روحية نفسية اجتماعية لا يتعدد ولا يتوزع، وبالتالي إن مزدوج الجنسية في تلك الأوقات يحسم ولاءه وانتماءه الفعلي ويكشف على حقيقته.
ونظرا لكون فئة معتبرة من الجزائريين، تقدَّر بمئات الآلاف، يحملون أيضا جنسية دولة أجنبية معينة، لظروف تاريخية وأسباب أمنية وما تلاها من ضائقة اقتصادية بعد أحداث تسعينيات القرن الماضي، جعلت الشباب خاصة يتهافتون على طلب جنسية تلك الدولة والحصول عليها، ووجدت تلك الدولة ذات الماضي الاستعماري في ازدواج جنسيتها لتلك الفئة وسيلة للمساومة وإبقاء الجزائر تدور في فلكها وتخضع لهيمنتها سياسيا واقتصاديا وثقافيا، مع العلم أن قانونها مشتلة لتفريخ جنسيتها. لذلك سعت بكل الوسائل لجلب النخب المتشبِّعة بثقافتها وقيمها الحضارية ونمطها الاجتماعي، من أولئك، وجعلهم في مناصب المسؤولية والوظائف الهامة ليحققوا لها مصالحها نيابة عنها، وردة العشريتين السابقتين في المجال الاقتصادي والثقافي خير دليل على ذلك.
على هذا الأساس طُرحت مسألة معاملة مزدوج الجنسية من حيث تمتعه بالحقوق السياسية ذات الارتباط بالولاء الكامل والإخلاص التام، ما إذا كان يجوز قانونا اعتماد معايير انتقائية لإقصاء بعض الوطنيين المشكوك في ولائهم. ويتولى الدستور، في كل الدول، حسم هذه المسألة، وهو ما أقره الدستور الجزائري المعدّ سنة 2016، في مادته 87 بوضع شروط تنصب في هذه الغاية بالنسبة للترشح لرئاسة الجمهورية، وفي مادته 63 بخصوص تولي المسؤوليات العليا في الدولة والوظائف السياسية، باشتراطها أن يكون المعني بالأمر يحمل الجنسية الجزائرية وحدها من دون سواها. لكونها مهامّ سياسية سامية وحسّاسة، لتعلّقها بالسياسة العامة للدولة وأمنها الداخلي والخارجي، ومن تسند إليه يطلع بحكم وظيفته على جميع أسرار الدولة ويشارك في اتخاذ القرارات الهامة المصيرية المتعلقة بأمن الدولة ومصالحها العليا. وصدر القانون 17-01 المؤرخ في 10/01/2017 محددا تلك المناصب.
وما يؤكد على ضرورة الإبقاء على أحكام المادتين 63 و87 من الدستور الحالي، حقائق واقعية ساطعة؛ إن جل الوزراء السابقين والمسؤولين السامين المزدوجي الجنسية، المتورطين في قضايا فساد وقضايا أمنية فارُّون من العدالة الجزائرية، يتمتعون بكل أمان ويعيشون في بحبوحة في الدول الأجنبية التي يحملون جنسيتها، بعد اختلاسهم وتهريبهم ملايين الدولارات. ولن تستطيع السلطات الجزائرية إحضارهم أو تنفيذ العقوبة المحكوم بها عليهم، ولو عن طريق الأنتربول، أو تتمكن من استرداد الأموال التي نهبوها وهرّبوها إلى الخارج، بعد أن لبسوا المعطف على وجهه الآخر ومزّقوا جواز السفر الجزائري.
وهكذا انكشف أن حملهم الجنسية الجزائرية كان مجرد ستار لتحقيق مصالحهم غير المشروعة، وليس لهم ولاء حقيقي لها. كذلك كشف التعديل الحكومي الأخير عن واقعة مهمة في هذا السياق، وهي أن أحد النواب بالمجلس الشعبي، بعد تعيينه وزيرا وتنصيبه رسميا، رفض التخلي عن جنسيته الأجنبية، تطبيقا لأحكام المادة 2 من قانون 17-1 المذكور أعلاه، ما استلزم إصدار مرسوم لاحق يلغي مرسوم تعيينه. هذه الواقعة تكشف أن ذلك الشخص – المعروف- ليس له ولاء بالمطلق للجزائر، بتفضيله جنسيته الأجنبية عن خدمة الجزائر. هذه عبرة لكل من يعتبر، ودرس يجب حفظه والعمل به مستقبلا.
والغريب أن يأتي مشروع الدستور المطروح للمناقشة والإثراء، خاليا ومتجاهلا عن عمد حكم المادة 63 من الدستور الحالي، التي تعدّ مكسبا للتحرر الحقيقي من الهيمنة الأجنبية، وكأن لجنة لعرابة وجدت فيها تقييدا ومساسا بالحريات الفردية، لفتح المجال أمام الانتهازيين مزدوجي الولاء لتحقيق مآربهم، مع أن الواقع أثبت أن ولاءهم وإخلاصهم للجزائر كان زائفا. أناشد المسؤولين المخلصين أن يحرصوا على إدراج مضمون المادة 63 من الدستور الحالي في الدستور المقترح، وألا يقعوا في هذا الخطأ المسموم القاتل.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 18/07/2020
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : الشروق اليومي
المصدر : www.horizons-dz.com