الجزائر

درءًا لشبح العنوسة بأم البواقي فتيات يدفعن المهور للظفر بفارس الأحلام



درءًا لشبح العنوسة بأم البواقي              فتيات يدفعن المهور للظفر بفارس الأحلام
العنوسة في ولاية أم البواقي المحافظة، كغيرها من ولايات القطر، مشكلة اجتماعية تعاني منها شريحة واسعة من النساء. وحسب دراسة محلية حديثة حول العنوسة، فإن أكثر من 20 ألف امرأة في ولاية أم البواقي - البالغ عدد سكانها أزيد من 700 ألف نسمة - تجاوزن سن الثلاثين ولم يتزوجن بعد  وأرجعت الدراسة، التي أعدتها جمعية ترقية المرأة و توعيتها، الأمر إلى سببين الأوّل غلاء المهور، والثاني نظرة المجتمع السيئة للمرأة العاملة. لكن رغم محاولة مجاراة التطورات المحيطة، فإن تطور المرأة بات ـ على ما يبدو ـ يمثّل لها مشكلة.   كثير من شباب ولاية أم البواقي يعزفون عن الزواج بنساء ناشطات منخرطات في الحياة العامة، أومتعلمات وأستاذات في الجامعات، رغم تقلص المشكلة ممّا كانت عليه في السابق، لكنها تظل قائمة وإن لم تصبح ظاهرة. وفي ذات الوقت تتعدّد الأسباب التي تؤدي إلى مشكلة العنوسة بمختلف صورها أو”تأخّر الزواج” كما يفضّل البعض تسميته.   العنوسة.. ذلك الشبح المؤرق  وفي ظلّ هذه الأوضاع وخوفًا من شبح العنوسة اخترعت بعض نساء الولاية - وفقًا لقاعدة الحاجة أمّ الاختراع - أسلوبا جديدا وفريدا، وهو المبادرة بدفع المهور والتكفّل بجميع مصاريف الزواج، والمهمّ طبعًا هو الفوز بفارس الأحلام وتحولهنّ من آنسات إلى سيدات، وذلك أضعف الإيمان، وإن كان الأمر لا ينبع من قناعة ذاتية ولكن تحقيقًا لرغبة الأهل والمجتمع ليس إلا، لأن العنوسة أضحت في المجتمع الجزائري معرّة وعيب للأسف الشديد.  وترى الأستاذة سامية خير الدين أن نظرة المجتمع الجزائري للعوانس نظرة سلبية “خاصة عندما تكون المرأة جميلة فإنهم يطرحون ألف سؤال وسؤال.. كيف ولماذا لم يتقدم لخطبتها أحد، وهي جميلة وقابلة للزواج، ولماذا لم ترتبط باعتبار أن الزواج هو السنة المفروضة على المرأة..”.  وتعتقد سامية أن المجتمع الجزائري بصورة عامة لا يتقبل وضع المرأة أيا كان “لأنه يرفض أي دور جيد للمرأة، وأقصد هنا بجيد النديّة والتكافؤ في الدور الذي تؤديه المرأة في المجتمع، بدليل أن المجتمع ينظر إلى المرأة العانس بنفس النظرة إلى المرأة المطلقة رغم أنه شتان بين الاثنتين”.  وتضيف المتحدّثة:”مع الأسف الشديد فحتى الرجل المتعلم والمثقف ما زال ينظر هو أيضا للمرأة بصورة سلبية، باعتبارها خُلقت فقط لتكون تابعة له، وهذه هي المأساة الحقيقية، خصوصًا في ولاية أم البواقي باعتبارها مجتمعًا قبليًا وعروشيًا وليس مجتمعًا مدنيًا”.   وتردف قائلة: “لو تحررنا قليلا من الموروث الثقافي البليد والسلبي تجاه المرأة، ستحل كثير من مشاكلنا، على الأقل لن ندخل في أزمة مبادرة بعض النساء بدفع المهور والتكفل بكل تكاليف ومصاريف ومتطلبات الزواج عوضًا عن الرجل، وتلك هي المأساة بعينها بكل أسف”.  وتتساءل:”لماذا لا يقيّم المجتمع المرأة إلا من خلال كونها زوجة.. لماذا لا يقيّمها من خلال عملها الذي تؤديه؟ إلى متى اعتبار المرأة في مجتمعنا المحلّي مجرد زائدة دودية في جسد العائلة الجزائرية بالإمكان استئصالها في أي لحظة..؟”.  وتتحدث سامية عن انعكاسات سلبية ليس للعنوسة بحد ذاتها ولكن لنظرة المجتمع، ومن تلك الانعكاسات اضطرار بعض النساء اللواتي دخلن سنّ العنوسة إلى الزواج من شباب أصغر منهن سنًا، وهي تعتقد أن هؤلاء الشباب لا يتزوجون بنساء أكبر منهم إلا من أجل مصلحة وطمع، وهو الأسلوب السائد هذه الأيام على مستوى ولاية أم البواقي. و”بعض النّساء يعرفن ذلك ويقبلن به تجنبًا لكلام الناس ولملء الفراغ.. الانعكاس الآخر هو اضطرار كثير من الأسر إلى تزويج بناتهن في سن مبكرة خشية من العنوسة”.   أما المحامية ميساء لوز، التي لم تتزوج حتى الآن، فقالت لـ “الفجر” إن العنوسة باتت تمثل فعلا ظاهرة في أم البواقي والجزائر ككل، خاصة في المدن والحواضر الكبرى”، كما هو الحال بالنسبة لعين مليلة مدينتها التي تعيش فيها.   وترى ميساء أن العنوسة لا تسبب الكثير من العقد النفسية للنساء، وبالأخص لمن يعملن سواء في وظائف حكومية أوخاصة، وتقول:”بالنسبة لي شخصيًا لا أشعر بأن العنوسة عائق، وأنا أنظر إليها بشكل عادي جدا لأنني أقضي معظم وقتي من الصباح وحتى الليل في عملي، كمحامية، وأحيانًا لا أجد وقتًا في آخر الأسبوع لألتقي بصديقاتي وزميلاتي إلا فيما ندر، وبالتالي فكل الحواس مرتبطة بالعمل، وليس هناك وقت للتفكير في الزواج” .     دفع النساء للمهور يحدث انقسامات خطيرة في المجتمع  تسبّبت ظاهرة دفع النساء للمهور، عوضًا عن الرجال، بولاية أم البواقي، على عكس ما توجبه الشريعة الإسلامية، إلى حدوث انقسامات خطيرة داخل المجتمع المحلي المحافظ، على الرغم من مخالفتها للأعراف والتقاليد. وأخذت تلك الممارسات تشهد ارتفاعًا متزايدًا في عدد معتبر من مدن الولاية. وكما هو معروف، فإن الإسلام يقضي بأن يدفع الرجل المهر للعروس، ويلزم الرجل بأن يدفع للمرأة المهر، ما لم تتنازل المرأة عن ذلك رغبة منها.  ويشير الأستاذ بلقاسم شريرو، أخصائي اجتماعي، إلى أن المواطنون يؤمنون بأن تلك الصورة المحدّثة في تقديم المهر من طرف المرأة وليس الرجل لا أصل لها في الشرع وحتى العادات والتقاليد الموروثة، لكنهم مع ذلك لا يزالون صامتين أمام هذه الظاهرة الغريبة، أوأنهم لا يلقون لها بالا رغم أنها بدأت تنتشر بشكل كبير ومخيف.   وأكد المتحدث أن المهور لم تعد تقتصر على المال، بل امتدت إلى الحلي والمصوغات والأثاث والمنزل وحتى السيارة. كما كشف شريرو أن المغالاة في طلب المهور زاد من انتشار العلاقات الجنسية غير المشروعة وحالات الاغتصاب وعمليات الإجهاض بين فتيات الولاية”.  وقال الأخصائي الاجتماعي:”أقدمت شابة تعرضت لمضايقات من جانب أهلها، بعد أن تناهى إلى علمهم أنها هي من منحت لعريسها المهر قصد الزواج بها، إلى الهروب من بيت والدها بغرض الزواج من الشاب الذي اختارته، لكنه غدر بها وسلبها كل أموالها وممتلكاتها - باعتبار أنها طبيبة أخصائية - إلى جانب سلبها أغلى ما تملك الفتاة وهو شرفها، وتركها وحيدة تندب حظها العاثر”.      تقديم المرأة للمهر انتقاص من كرامتها  واستطلعت “الفجر” آراء عدد من الرجال في بعض كبريات مدن أم البواقي حول هذه القضية الشائكة، وبرر البعض ممن شملهم الاستطلاع تقديم أوقبول المهر، لكنهم أجمعوا على أن تقديم المرأة المهر للرجل هو انتقاص للرجولة كما هو انتقاص من كرامة المرأة وشرفها،”وحريّ بالرجال الذين يقبلون بذلك أن يمكثوا بالبيت للطبخ وتربية الأطفال، والقيام بشتى الواجبات والأعمال المنزلية فيما تذهب المرأة إلى العمل..”.  وتقول إحدى السيدات اللواتي تزوجن بهذه الطريقة منذ مدة: “إن المهر عادة ما يتضمن نطاقًا كاملا من البضائع الاستهلاكية مثل التلفزيون والثلاجة والغسالة والحلي والمصوغات والملابس ومكيفات الهواء والسيارة، وعادة ما تضطر الفتاة إلى الاقتراض لتقديم المهر لزوجها.. فالمهم هو الزواج وإبعاد شبح مخيف اسمه العنوسة”.  وقال الشاب (فؤاد.م) البالغ من العمر 25 عامًا، أعزب ويعمل نادلا بمطعم في عين البيضاء، “من الصعب علي تحقيق كل مطالب الفتاة التي أتقدم لخطبتها، فتكاليف الزواج أضحت باهظة، وأنا ليس لي القدرة على ذلك بحكم عملي ومدخولي المتواضعين، ونتيجة لذلك لم أتزوج إلى حد الآن”.  وعندما سألناه عن رأيه في “الموضة” الجديدة المحدثة مؤخرًا والمتمثلة في تقديم المهر من طرف المرأة وليس الرجل، قال:”نعم، لقد سمعت بهذا الموضوع، وهو وإن كان غريبًا وصادمًا نوعًا ما إلا أنّ له مبرراته المشروعة، وهي المغالاة في المهور من جهة وشبح العنوسة الذي يهدد النساء من جهة أخرى”.  أما الشاب (ربيع. ط) البالغ من العمر 30 عامًا، الذي يعيش في عين فكرون، فقال:” أنا لا أرغب في تلقي مهر من طرف زوجة المستقبل بغرض الزواج، لكني لا أستطيع أن ألوم النساء اللاتي يقمن بهذا العمل درءًا للعنوسة؛ لأنه الأكيد لهن مبرراتهن وعلى كلٍ كل واحد حرّ في ما يفعله”.    علماء الدين: دفع النساء للمهور بدعة ولعنة اجتماعية  الملاحظ أنه هناك الكثير من الزيجات المسجلة على مستوى ولاية أم البواقي عقدت بهذه الطريقة الغريبة والدخيلة عن الإسلام. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل الزواج بهذه الطريقة الشاذة يرضي الله؟  يقول الإمام تقي الدين صالحي، من قصر الصبيحي، “إن تقديم المهر من طرف المرأة قصد الزواج وطردًا للعنوسة لعنة اجتماعية ويعارض التعاليم الإسلامية والتقاليد الاجتماعية المحلية. وعلى الرغم من انتشاره في الآونة الأخيرة مثل الوباء في المجتمع المحلّي، إلا أنّه مرفوض شرعًا لأن الرسول (ص) يقول: التمسوا - وليس التمسن - ولو خاتمًا من حديد، قاصدًا بذلك الصداق الذي من المفروض على الرجل أن يقدمه للمرأة وليس العكس”.  ورغم أن تقديم المهور من طرف النساء حقيقة مرة وواقعا معاشا بكل أسف، ورغم حملات الإصلاح الاجتماعي التي أطلقتها بعض الجمعيات المحلية وبعض أئمة مساجد الولاية، إلا أن المشكلة تتفاقم. وقال الإمام تقي الدين “النمو السرطاني للمهر في المجتمع المحلي يرجع إلى الجهل والجشع من أجل المال. لكن يجب أن نكثف من جهود الإصلاح الاجتماعي والديني لكي نتغلب على هذا الخطر الماحق. كما أطالب أيضا بفرض قانون قوي ضد الاستغلال باسم المهر وتجريم منح المرأة للمهر مهما كانت الأسباب والدوافع والمبررات”.  وتقول خديجة ريغي، أستاذة جامعية وناشطة في ميدان حقوق المرأة، “أصدر العلماء المسلمون العديد من الفتاوى على قضايا ثانوية، لكنهم يفضلون عدم الدخول في حملة على الصعيد الديني في خطب الجمعة، لرفض مثل هذه الأخطاء الاجتماعية، وأعني بذلك مبادرة المرأة بتقديم المهر لزوجها وليس العكس”.     خبراء الاجتماع: تزايد حالات الموت المفاجئ بسبب العنوسة بين فتيات الولاية  لا يمكن لأحد أن ينكر في الوقت الحالي حقيقة أن هناك حاجة إلى الكثير من الإصلاحات في المجتمع المحلي بولاية أم البواقي، فقد أصبح في حاجة كبيرة إلى إزالة الشرور والضعف، اللذين زحفا على العادات والتقاليد والعلاقات المشتركة والثقافة وأسلوب الحياة والزواج وقيم الأسرة، كما تنبع الحاجة إلى توحيد الجهود لإصلاح المجتمع.  ويؤكد صلاح الدين عيساني، أستاذ جامعي في علم الاجتماع، على “تزايد حالات الموت المفاجئ بسبب العنوسة بين فتيات الولاية، حيث توفّيت العديد منهن لأسباب غير طبيعية خلال السنوات الثلاث الماضية، غالبيتهن بسبب مضايقات الأهل ومعايرتهنّ من طرف المجتمع المحلي الذي ينظر إلى المرأة العانس نظرة مريبة”.  وأضاف المتحدث أن هذا الأمر دفع بعض النساء المقتدرات ماديًا اللواتي يعانين من شبح العنوسة إلى المبادرة بدفع المهور والتكفّل بجميع مصاريف الزواج قصد الظفر بفارس الأحلام. ويوضح الأستاذ عيساني أنه في الوقت الذي لا تزال فيه قيمة المهور منخفضة بين أوساط الطبقة الفقيرة ما بين 10 إلى 15 مليون سنتيم في عموم ولاية أم البواقي، وصلت لدى الطبقة الميسورة الحال إلى 100 مليون سنتيم وأكثر.  وكشف أستاذ علم الاجتماع، عبد السلام صيغة، أن بعض الفتيات اعتقدن خطأ بأن دفعهن للمهور قصد الزواج سيضمن لهن معاملة جيدة من طرف الزوج، غير أنّ الارتفاع الكبير في قضايا الطلاق والاستغلال المادي تكذب ذلك. وحاولت بعض الهيئات والجمعيات المحلية دق ناقوس الخطر لكن كل تلك المحاولات والتحذيرات لم تفعل شيئا لوقف تلك الممارسات الخاطئة، ولم تخرج تلك الجهود عن نطاق الكلام الشفهي المعسول، ولكنها - للأسف - لم تقم بمنعه.  ويشير البعض إلى أن الزمن تغيّر وأن المال الآن بات كل شيء، ومن ثم يجب أن يعيش الناس ويموتوا من أجل المال فقط، وللحصول على المال يطلب الأهل المهر والمال في مناسبات الزواج، وربّما يأتي ضمن المهر أشياء لا تخطر على بال عاقل. ويلجأ غالبية الشباب الراغبين في الزواج إلى الاقتراض للوفاء بمتطلبات العروس، بسبب المغالاة الكبيرة في المهور.   وفي المقابل فإن قيام النساء بدفع المهور للرجال قصد الزواج والتخلص من ثوب العنوسة أمر غير إسلامي، ولا ترتضيه الشريعة الإسلامية والنفس السوية، بل هو تقليد وضعي وضيع تتبعه بعض فتيات الولاية ويجاريها في ذلك بعض الرجال الإنتهازيين وقليلي المروءة على غير هدى. صحيح أن العنوسة أصبحت مشكلة مؤرقة وتقض مضاجع النساء اللواتي فاتهن قطار الزواج، وأن بعض الشباب يستغلون ضعف النساء اللواتي يبادرن بدفع المهور قصد الزواج، لكن ما يحدث في ولاية أم البواقي حاليًا في هذا الخصوص يتطلب دراسة عميقة وتدخلا عاجلا من أهل الاختصاص، حتى لا تنقلب الأمور والموازين ويصبح الشاذ قاعدة.    عمّـار قـردود


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)