الانتقال السريع من حالة الندرة إلى حالة الإشباع المفرط مع هذا التدفق الهائل للمعلومة والرأي بل يشهد بتوسيع هامش حرية التعبير بقدر ما يؤكد زيادة قدرة من يتحكم في الإعلام في إدارة الشعوب بالمعلومة الكاذبة والرأي الموجه.
ككل سنة في الثالث من مايو يحتفل أهل الكلمة بعيد حرية التعبير التي لا تقتصر على فضائها التقليدي في الإعلام وقد أصبح سلطة رابعة حقيقية إذا لم يكن قد تحول إلى سلطة لها وزن وثقل يفوق باقي السلطات.
غير أن الاحتفال به هذه السنة على الأقل في العالم العربي على خلفية أحداث الربيع العربي والدور الذي لعبه الإعلام في تحري الشارع العبي في جميع الاتجاهات بات يطرح على الإعلاميين وعلى السلطات كما على الشعوب أسئلة كثيرة ومثيرة ليس فقط حول دور ومكانة الإعلام بل أيضا وربما خاصة حول الإطلاق المفرط للحريات خاصة في مجتمعات غير مستقرة لم يكتمل فيها بناء الدولة، ولم ترسخ فيها التقاليد الديمقراطية .
لا شك أن القارئ يكون قد استعاد أجواء سنة 2011 والفصل الأول من السنة الجارية وكيف أسر الرأي العام العربي داخل دوامة من الضخ الإعلامي المتواصل على مدار ساعات الليل والنهار في صناعة ونقل الأخبار والآراء في تردد هالي الوتيرة يمنع العقل من الاستيعاب وبالتالي يحرمه من التمييز بين الحق والباطل، والصادق والكاذب، والخبر الحقيقي والمعلومة المصنعة، وبين الرأي المنزه عن الأهواء والتحزب والرأي الموجه الذي يعمل بثقافة الفكر الواحد.
لا شك أن الحرية نعمة وأعظمها حرية تداول المعلومات والرأي، وهو ما كنا نحتفل به في مثل هذا اليوم، وضحى من أجله نساء ورجال من الإعلاميين ومن المدافعين عن هذا الحق المرسخ اليوم في جميع دساتير العالم والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان. غير أن التطور الهائل الذي طرأ على وسائل الإعلام ودخول وسائط إعلام جماهيري تخاطب في اللحظة ذاتها المليارات من الناس، وسيطرة قوى المال والقوى السياسية المنظمة على الحصة الأكبر من وسائط الاتصال المعاصرة قد حرف ليس فقط مهام الإعلام بل حرف مفهوم حرية التعبير نفسها التي هي كما قال أحدهم بشأن حرية المبادرة في النظام الليبرالي: 'هي حري الذئاب داخل خم دواجن'' وهو يعني أن هذا النوع من الحريات إنما يصب في الغالب لصالح من يملك وسيلة الاتصال بشكل من الأشكال.
فليس متوقعا أن يكون نصيب الفرد الأمريكي أو البريطاني أو الإيطالي مساو لنصيب أرباب الإمبراطوريات الإعلامية مثل ميردوخ أو بيرليسكوني، ولا يمكن أن يكون نصيب الرجل الأسود في الولايات المتحدة مساو للرجل الأبيض، أو يكون نصيب شعوب العالم الثالث مساويا لنصيب شعوب الشمال، أو يكون نصيب الفرد داخل المجتمعات المحكومة بنظم الاستبداد مساويا لنصيب النخبة الحاكمة. وفي الغالب فإن حرية التعبير هي السلعة الأقل تداولا بالعدل بين الناس حتى تضاف إلى باقي الحريات الأساسية التي يمكن قياسها بسهولة مثل حرية المعتقد، وحية الدفاع عن النفس وعن المال وعن العرض حتى حين تتعرض هذه الحريات للاعتداء.
غير أن أخطر وجوه الاعتداء على حرية التعبير ليست كما يعتقد البعض في ما تمارسه بعض الأنظمة من تضييق على حريات الإعلام والصحافة، بل وتمارسه حتى الدول الأكثر ديمقراطية بأساليب وطرق ماكرة، بل الخطر يكمن في هذا التدفق الهائل للمعلومة والرأي مع انتشار وتعميم وسائل الاتصال المعاصرة مثل التلفزة ومواقع الإنترنت، تدفق يهدف إلى تحقيق حالة من الإشباع الهائلة التي تحرم القارئ والمستمع والمشاهد من الوقوف بعقله النقدي عند ما يسوق له من أخبار ومعلومات وأراء لم يعد من الممكن إخضاعها لرقابة الصدقية.
مؤسسات إعلامية عالمية كبرى لم تعدد تتردد في صناعة الخبر الكاذب والملفق كما تابعنا على هامش الربيع العربي وقبله في تعاطيها مع أحداث دولية كبرى مثل أحداث 11 سبتمبر وما تلاها من حروب واعتداءات على الشعوب لم يصلنا من وقائعها سوى ما كانت تريد القوى المهيمنة على الإعلام العالمي إيصاله كجزء من آلة الحرب، وقد يذكر القارئ كيف أن الإعلام كان آلة طيعة بيد الأقوياء لإذاعة الخوف بين الناس من تهديدات وهمية ومخاوف مصطنعة وجائحات وبائية تصنعها شركات صناعة الأمصال والعقاقير وما إلى ذلك من حملات اختصت في صناعة الخوف الذي تحول إلى أداة لإدارة الشعوب.
لكل ذلك فإن الاحتفال باليوم العالمي لحرية التعبير يفترض أن سكون فرصة لرصد الأخطار الجديدة التي تهدد حرية التعبير أكثر من أي قانون جائر يمنع هذا الطرف أو ذاك من الحق في التعبير، والتفكير في الوسائل الجديدة التي ينبغي للشعوب أن تبتكرها لتجعل من حرية التعبير فعليا حرية متداولة بقسط من العدل والأهم من ذلك كيف نحمي الإنسان من هذا التغول الذي يحول الإعلام إلى آلة حرب باتت اليوم تسبق الجيوش وتمهد لها ساحة المعركة بل تكسبها المعركة حتى قبل إنزال الجيوش.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 03/05/2012
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : عبد الرؤوف عزيري
المصدر : www.elmassar-ar.com