الجزائر

حكمة عطائية



حكمة عطائية
اللهم اغننا عن الناس ولا تغننا بهميقول ابن عطاء الله السكندري: “ربما استحيا العارف أن يرفع حاجته إلى مولاه لاكتفائه بمشيئته، فكيف لا يستحي أن يرفعها على خليقته”.دعني ألفت نظرك أولاً إلى ما تدلّ عليه كلمة “ربما” في أول هذه الحكمة، إنها تدل على أن ما يذكره ابن عطاء الله هنا من شأن العارفين، ليس مبدأ مقررٌ وحكم ثابت يأخذون أنفسهم به، وإنما هو حال تمرّ بهم، لها عواملها وأسبابها، قد تلبث يسيراً أو طويلاً، ثم إنهم يتجاوزونها إلى حال أخرى لها هي أيضا عواملها وأسبابها.لذا فإن ما قد تستشكله عندما نبدأ بشرح هذه الحكمة، غير وارد ولا داعي للوقوف عنده.فما هي الحال التي يمرّ بها العارف-وقد مضى تعريفه أكثر من مرة-فتستوجب ألا يرفع حاجته إلى مولاه جل جلاله، حياء منه؟إن العارف يكون في تلك الحالة مستغرقاً في مشاعر الثقة التامة بحكمة الله ورحمته، بحيث تحجبه هذه المشاعر عن رؤية رغباته والشعور بحاجاته وتطلعاته.إنه بمقدار ما يكون مستغرقاً في اليقين برحمة الله وحكمته، يتهم نفسه في المقابل، بعدم معرفة ما يصلحها، وضياع السبل والتباسها عليه، ولا ريب أن يذهل تحت وطأة هذا الاتهام عن الحظوظ التي تهفو إليها نفسه، وعن مدى تعلقها بتلك الحظوظ.إذن ففيم يسأل الله حاجة هو ذاهل عن تطلع نفسه إليها؟وحتى إن ألحت عليه نفسه وأشعرته برغبتها، فإنه يستحي أن يتجاهل ثقته الكبرى بحكمة الله ورحمته، وعلمه بأن الله لا يختار له إلا الخير، ليسأل الله تحقيق هذا الذي تصبو نفسه إليه.ولعل من المواقف التي انبثقت عن هذه الحال، موقف سيدنا إبراهيم خليل الرحمن، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، يوم زج به في المنجنيق ليلقى به في النار، فقد علمت أنه أبى أن يسأل ربه النجاة من نار النمرود، وإنما سبب ذلك ثقته بحكمة الله ورحمته، ويقينه بأن الله أرأف به من نفسه وأعلم بما يصلح أمره، ففيم يسأله شيئاً لا يستيقن وجه لمصلحة لنفسه فيه؟ومن ذلك أيضا موقف عمران بن حصين رضي الله عنه، أمام المرض العضال الذي زجه الله فيه، والذي أثبته على سرير من خوص النخل قرابة ثلاثين عاماً، فلم يتوجه خلال ذلك كله إلى الله-فيما قالوا-بسؤال العافية، وقد زاره أخوه العلاء مرة فرّق عليه لما رأى سوء حاله وبكى، فقال له أخوه، ما يبكيك؟قال:هذه الحال التي أنت فيها.فقال له:لا تبك فإن أحبه إلى الله تعالى أحبه إليّ.وقد أوضح ابن عطاء الله السبب الذي أذكره لك في كتابه (لطائف المنن) فقال: “والذي يجب لك رفع الهمة عما سوى الله، علمك أنه لم يخرجك إلى مملكتك إلا وقد كفاك، ومنحك وأعطاك، ولم يبق لك حاجة عند غيره. وإذا كان قد اقتضى لهم الفهم عن الله أن يكتفوا بعلمه عن مسألته، فكيف لا يوجب لهم الفهم عن الله الاكتفاء بعلمه عن سؤال خلقه؟”ثم إن هذه الحالة قد تمر، فتعقبها حالة أخرى هي الاستغراق في مشاعر الذل والعبودية لله. وإنما تنبثق هذه المشاعر من الشعور بالاحتياج مع العجز عن بلوغ المراد. والشأن في صاحب هذه الحال أن يدرك شدة فاقته وبالغ عجزه، موقناً أن ليس في الكون كله من يرحم فاقته ويسد عجزه ويرأف بحاله إلا واحد لا ثاني له، وهو الله عز وجل..ومن ثمة فإن الشعور بالذل والعجز يرغم صاحبه على الشكوى وعرض الحال، ومد يد الافتقار إليه تعالى بالمسألة والدعاء.ولقد كان سيدنا إبراهيم الخليل يمر بهذه الحالة الثانية عندما توجه إلى الله تعالى بالدعاء قائلا: “رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ، وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ”(الشعراء)على أن المسلم أياً كان معرض دائماً لكلا هاتين الحالتين، فهو إما في حالة يشهد فيها فاقته واحتياجه وعجزه، فيقبل بالمسألة، وإما أن يكون في حالة يشهد فيها رحمة الله وحكمته ولطفه، فيستسلم لشهوده، ويعرض عن رغباته ويفوض أمره إلى الله.ولو رجعت إلى أحوالك وتقلباتك مع الله عز وجل، لرأيت أن تنهل من كلا الوردين وتتعرض لكلا الحالين.بقي أن تعلم أن ابن عطاء الله لم يسق هذه الحكمة للتركيز على هذا الذي أوضحته لك، وإنما ساقها تأكيداً لما ذكره في الحكمة التي قبلها من أن من أهم آداب أخذ الأعطيات من الناس أن يعلم الآخذ أنه إنما يأخذها من الله.فهو يقول إذا كان من شأن العارفين أن يخجل أحدهم من عرض حاجته ومسألته على الله، تفويضا لمشيئته، وثقة منه بحكمته ورحمته، فكيف يرضى أن يرفع حاجته إلى عباده الذين لا يملكون من أمر أنفسم شيئاً؟وهذا واجب كل مسلم أيقن أن لا نافع ولاضار، ولا معطي ولا مغني، ولا معين إلا الله.فإن عز عليه السبيل إلى ذلك، فليجئ إلى الله يسأله أن يحققه بوصف الاستغناء به، والاستسلام له، والرضا عنه وقد كان من دعاء أبي العباس المرسي، فيم نقله تلميذه ابن عطاء الله، قوله:اللهم اغننا عن الناس ولا تغننا بهموإنه لدعاء رائع عذب، فإن الاستغناء بالناس عين الفقر، والاستغناء بالله بل الافتقار إليه عين الغنى.المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)