الجزائر

حقيقة الزحام في المسجد الحرام



حقيقة الزحام في المسجد الحرام
إنّ من تأمّل الحجّ وجده مُذكّرا بيوم القيامة؛ فالحاج مسافرٌ إلى اللّه تعالى، تُحيطه الهيبة والخشوع من عظمة الموعد، فمن الخطوة الأولى من بيته يشعر وكأنّه منبعث من قبره، خصوصًا مع ارتداء لباس الإحرام، وفي تشييع الأهل والأقارب وتوديعهم له ما هو إلاّ كتشييع الميت ليلقى ربّه، فما أشبه الحال بالحال، وسفرُ الحجّاج كان ولا يزال مخوّفًا، فأغلب الحجّاج يقطعون آلاف الأميال ولا يدرون ما يعرض لهم، وقد كان الحجّاج يتيهون في الأرض ويضلّون الطّريق فلا يرجعون إلاّ بعد سنين، ومنهم مَن لا يعود، وبعضهم يتعرّضون لقُطّاع الطّريق واللّصوص فربّما يُقتلون أو تسلب منهم أموالهم، فلا يحجّون أو لا يرجعون.لا يزال السّفر إلى الحجّ، في زمننا الحاضر، مُخوّف، فكم تاه النّاس هناك، وكم هم الّذين ضاع منهم المال والمتاع، وكم من حاج توفي قبل أن ترى عينه البيت الحرام رغم قصر زمن السّفر، فربّما قضى في المطار، وربّما صعُبت في حقّه إجراءات السّفر حتّى سافر إلى الدّار الآخرة قبل أن يُسافر إلى مناسك الحجّ. وحتّى إن كان السّفر في أيّامنا مريحًا إلاّ أنّ ركوب الطّائرة أو الباخرة ليس بالأمر السّهل عند بعض النّاس، لذلك يتأكّد في حقّ المسافر إلى الحجّ أن يؤدّي الحقوق الّتي عليه، وأن يَكتب وصيته قبل سفره، ويُوَدع النّاس ويوَدعوه، ويستَسْمِحهم ويستسمحوه، فقد يعود وقد لا يعود.ولقد اختار اللّه تعالى لأداء مناسك الحجّ بُقعة هي من أشدّ بقاع الأرض حرارة، وطبيعتها لا تضاهيها غيرها قساوة، وهذا ليتذكّر الحجّاج حرّ يوم القيامة، وهول يوم المحشر، فليس المكان للاسترخاء والاستجمام، حتّى إذا قضى الحجيج نُسكهم، وخرجوا من مكّة إلى ديارهم أحسّوا براحة عظيمة وسعادة كبيرة، فلا يكاد يحجّ أحد إلاّ ويُحس بهذا الإحساس ويشعر بتلك اللّذة مهما كانت المشقّة، ويرجون من اللّه أن يُكرمهم بحجّة تلو أخرى، وكلّ مَن حجّ مرارًا وتكرارًا إلاّ كانت له أمنية أن يتوفّاه اللّه عند بيته العتيق، ويُدفن في أرض خير نبيّ وأفضل أصحاب.وقد وقع في البلد الحرام حدث آلم كثيرًا من النّاس، حيث توفي مئات من الحجّاج في شدّة الزّحام، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون، وهذا الحدث قد مرّت الإنسانية على مثله مرّات ومرّات، وهلك النّاس في الحوادث بالمئات، فكم من طائرات سقطت براكبيها، وكم من بواخر غرقت بمَن على متنها، وكم من عمارات انهارت على ساكنيها، وكم توفي من النّاس في زحام الملاعب وحفلات الغناء، ولم نسمع من وسائل الإعلام في ذلك حديثًا مثل ما سمعناه في حدث الزّحام في البلد الحرام، بل كان تبرير زحام الملاعب وحفلات الغناء بفرط الحُبّ، وتشنيع زحام الحجّ بالفوضى والسّلوك المشين، ووصفوا الموسم بما لا يليق، وأخذوا يُسمّون القتلى فيه بالضّحايا وهم عند اللّه وعند المسلمين خير وأفضل بكثير وكثير، فقد قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في الرّجل الّذي سقط من راحلته يوم عرفة فمات: “اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلا تُحَنِّطُوهُ وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا” رواه البخاري، فهذا الحديث يصحّ في حقّ كلّ مَن يموت وهو مُحرم، فما أعظمها من خاتمة، وما أحسن الحال أن يموت المرء وهو يؤدّي مناسك الحجّ، لأنّه يُبعث يوم القيامة بإحرامه، ما أعظمها من خاتمة أن يشرع المرء في الحجّ ويقف بعرفة وينصرف مغفورًا له بإذن ربّه، ثمّ لا يتحلّل إلاّ وهو قد مات، فما أعظمها من خاتمة، فقد تمنّاها ناسٌ وبذلوا لها الأموال الطائلة، وخرجوا للحجّ كلّ عام لعلّ اللّه يقبضهم إليه فلم تتحقّق لهم، وإنّما تتحقّق لمَن يختاره اللّه لها.إنّنا نفرح لمَن مات على هذه الحال، ولكنّنا نحزن للأخطاء البشرية، ولا شكّ أنّ اللّوم يقع على التّفريط لا على مثل هذه الوقائع، فلا يزال النّاس يموتون في الحجّ منذ زمنٍ من الزّحام والمرض والعدوى والتعب وعامل السن والعُمر، بل إنّ من النّاس من يموت من الشّوق والحنين للبيت الحرام، فما إن يراه إلاّ ويخرّ مغشيًا عليه، وكم مات من أصحاب هذا الحال عبر الزّمن، إلاّ أنّ الّذين يغيظهم الحجّ، والّذين لا يحتملون أن يروا المسلمين في هذا الموسم الّذي تُعلى في الشّعائر، وتعلو راية الإسلام به، وتجعل الشّيطان وإخوانه من الجنّ والإنس يحثون على رؤوسهم التراب، يستغلون هذه الفرص ليُشنعوا بالحجّ، وربّما سارعوا إلى الدّعوة لأن يكون عدد الحجّاج قليلا حتّى لا يكون حدثًا مهمًا أو مؤثّرًا، لذلك لابدّ من توقّي الخوض فيما حدث للحجّاج، ولا نقول إلاّ ما يُرضي اللّه، ولا يزال النّاس يموتون في الحجّ إلى أن يرث اللّه الأرض ومَن عليها مهما كانت درجات الحيطة والحذر عالية، لأنّ اللّه يصطفي الحُجّاج، ويختار من الحجّاج مَن يتوفّاه محرمًا ليبعثه مُحرمًا.إمام مسجد الرّحمن - براقي




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)