الجزائر - A la une


حسن الظن بالخَلق
يقول ابن عطاء الله السكندري: ”من اطلع على أسرار العباد ولم يتخلق بالرحمة الإلهية، كان اطلاعه فتنة عليه وسبباً لجر الوبال عليه”.إن الإنسان يجب أن يلتزم جانب الأدب مع الناس جميعاً، فيحسن الظن بهم ما وسعه ذلك، ويحمل ما يراه من تصرفاتهم على محمل الخير، فإن اطلع على أسرارهم البشرية التي تتحكم، في الغالب، بها الغرائز والرغبات والأهواء النفسية، فلابدّ أن يحمله ذلك على التخلي عن واجب الأدب معهم و حسن الظن بهم، ما لم يتخلق بأخلاق الله ويتحكم به سلطان الرحمة الإلهية، حيث ينظر إليهم وإلى ما بدا له من خفي شؤونهم وأحوالهم، بالعين التي ينظر بها الله إليهم وإلى خفي أحوالهم، وأنى للإنسان ذلك؟ّ!..إن الإنسان منا يظل نزاعاً إلى بشريته، خاضعاً لسلطان طبائعه،فإذا صادف أن رأى أو علم عيوباً خفية ممن كان يبجله ويجلّه لما يبدو له من ظاهر حاله، فإنه لابدّ أن ينظر إليها ويتبعها بعين بشريته، ولابدّ أن يدعوه ذلك إلى تغيير نظرته إليه وإلى إهباط مكانته في نفسه.. وهكذا فإن رؤية هذا الإنسان أو علمه بالعيوب الخفية في صاحبه مبعث لفتنه وأي فتنة عليه، وسبب لجرّ الوبال من الله عليه.. إذ المطلوب منكم بحكم الله وشرعه التأدب مع سائر عباد الله عز وجل، وأن يحسن الظن بهم وأن يحمل تصرفاتهم على أفضل ما يمكن أن تفسرّ به.. فإذا اطلع منهم على بعض النقائص والعيوب، لم يملك سبيلاً إلى الالتزام بهذا الذي أمره الله به، ولم يجد بُدًّا من أن يزدريهم بدلاً من التأدب معهم، ولم يجد مفراً من أن يسيء الظن بهم بدلاً من واجب حسن الظن بهم، وربما ذهب في ذلك مذهباً يُريه أنه أحسن حالاً منهم، ولا شك أنه سببٌ من أهم أسباب الشقاء والهلاك.وإنما ينجيه من هذه الفتنة أحد أمرين اثنين:أحدهما: أن ينسى هذا الإنسان الذي اطلع على أخيه على بعض ما فيه من النقائص والعيوب، مشاعر بشريته ونوازعها التي تتحكم به ويتخلق في مكان ذلك بأخلاق الرحمة الربانية، فينظر إلى خفايا أخيه على هذا الأساس، وإنه لأمر عسير لا يكاد يقوى عليه الصديقون المقربون.. وقد قالوا إن واحداً من أولياء الله المقربين دعا الله و ألح في الدعاء أن يريه الناس على حقائقهم الخفية،لا كما يبدون في تصرفاتهم وأضاعهم الظاهرة، فكان إذا دخل السوق رأى أكثر الناس وقد لبسوا في وجههم أشكالا لحيونات شتى، فمنهم من كسي مظهر ذئب، ومنهم من بدا وكأن وجهه وجه قرد، ومنهم من تشكل رأسه على هيئة أفعى..فعاد يلتجئ إلى الله أن يخفي عن ناظره هذه الأشكال، وألا يريه من الناس إلا ظواهرهم المكشوفة التي قضى الله أن يتعارفوا وأن يتواصلوا على أساسها.ثانيهما: أن يبقى الإنسان محجوباً عن سرائر إخوانه وما فيها من أنواع القبائح والعيوب، كي لا يقع من جراء اطلاعه عليها إلى فتنة قد تسوقه إلى مهلكه.وهذا ما قضى به الله عز وجل. وقد علمت الآن أن في ذلك رحمة كبرى للفريقين، فهذا وُقي بذلك من فتنته ومَهلكه، وذلك بقي مكلوءًا بكنف الله وستره.لكنك قد تسأل فتقول: فهلا فُطر الإنسان نقياً في باطنه، كما قد مُكن بأن يكون نقياً في ظاهره، أي نقياً من العيوب الظاهرة والباطنة؟والجواب: لو فطر الإنسان على ذلك، إذن لما احتاج أن يقف،في حياته كلها، موقفاً يشكو إلى الله فيه ضعفه ويسأله المغفرة، إذ المغفرة تكون للأخطاء والذنوب. ومادام الإنسان معصوماً إذن فلا أخطاء ولا ذنوب، والضعف لابد أن يفرز النقائص والعيوب، ومادامت العصمة موجودة فلا نقائص ولا عيوب ومن ثم فلا ضعف أيضاً.ففيم، إذن يطرق هذا العبد باب ربه؟.. وفيم يقف منه موقف السائل المستجدي، وهومنزّه عن النقائص والعيوب، معصوم عن الآثام والذنوب؟وعندما يستغني العبد هذا الاستغناء، فمعنى ذلك أنه قد تحرر عن معنى العبودية لله.. أي تحرر عن مشاعر العبودية لله بسبب ظاهر قوته واستغنائه، وإن لم يتحرر عن حقيقتها، نظراً أن الذي عصمه هو الله، وأنَّ الذي نزّهه عن النقائص والعيوب ومظاهر الضعف هو الله...أحسب أنك قد عرفت الآن، مما قرره ابن عطاء الله في هاتين الحكمتين، أن الله قد يكشف للخلّص من عباده دقائق مكوناته وأسرار الزمان والمكان، ولكنه قضى ألا يكشف لهم ٍأسررا وخفايا عباده، وما يمكن أن تنطوي عليه من العيوب والنقائص.. إذ لو كشف لهم عنها لغدا الناس بعضهم فتنة لبعض، ولحلَ الازدراء والتحقير فيما بينهم محل التقدير وحسن الظن والحب.. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)