يُروى أن الرئيس الراحل هواري بومدين، رحمه الله، يوم وضع حجر الأساس في أواخر السبعينيات لجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بعاصمة الشرق قسنطينة، كان يراوده حلمٌ كبير في أن يجعل منها منارة مغاربيّة تضاهي الأزهر الشريف في المشرق، وقد بذل الشاذلي بن جديد، رحمة الله عليه، وُسْعه وجهده الكبير باستقطاب كوكبة من أعلام الأمة، يتقدّمهم المرحوم محمد الغزالي للإشراف عليها، ولكن شاءت الأقدار، بعد سنوات قليلة من تدشين ذلك الصرح العلمي، أن تعصف الأزمة بالبلاد، فيهجره عليّة المشايخ حتى من أبناء الوطن، وتتحول سريعًا الجامعة الرمز بفعل الغزو الدعوي إلى مرتعٍ لفكر دخيل عن المدرسة المغاربيّة المقاصديّة.اليوم تشيّد الجزائر ثالث أكبر جامع في العالم الإسلامي بعد الحرمين الشريفين، وهو بلا شكّ مكسبٌ حضاري عمراني فريد، يكرّس البُعد الروحي والديني لهوية الشعب الجزائري، ولا يمكن أبدا الخلط بين النقد اللاذع لعهدٍ سابقٍ والتنكر لكلّ منجز وطني بذريعة المعارضة لسلطةٍ سياسيّة بائدة، ولو أنّ الحقيقة خلاف ذلك، وهي أن تلك الأصوات النخبويّة الناعقة والحانقة على رفع صرح المسجد الأعظم في الجزائر إنما يسوءها، ويا للأسف، أن يرتفع لواءُ الإسلام على أرض الشهداء، ولو كان في صورة مكانٍ للعبادة والعلم، لأنهم يخافون من إشعاع النور ويؤثرون ظلام الجاهليّة والتطرُّف.
وعلى خلاف العلمانيين الماديّين، الذين طوّعوا منابرهم للسخرية من جامع الجزائر وتحويل الحدث التاريخي إلى مادة للتنكيت السّمج، تبقى قناعتنا الراسخة أنّ التقدّم المدني الفعلي لا ينفصل عن الدين الصحيح، بل هو المحرِّك الأساسي في صناعة الحضارة، وفق نظرية مالك بن نبي، لأنه يحفّزها ثمّ يمنحها القيم والأخلاق لتكون في خدمة الإنسانية، وذلك هو منطلقنا الرئيس في تثمين كل خيار يعزّز الارتباط الديني لأفراد المجتمع.
لا نزعم أنّ "جامع الجزائر" سيكون جسر العبور نحو المستقبل ولا مفتاحًا سحريّا لحلّ مشاكل البلد الإدارية والاقتصادية والاجتماعية، مثلما يحاول المرضى بعداوة الدين الحقّ التلاعبَ بالوعي العام، غير أنّه سيكون قلعة عامرة بالإيمان والمعرفة، تشكل قطبًا للإصلاح المجتمعي وتزكية النفوس وبناء العقول وتكوين الأئمَّة والدُّعاة وطلاب العلم على أعلى طرازٍ، وكل ذلك سيعود على الجزائريين بالخير، فتكون آثارُه المحمودة فلاحًا أخرويًّا في دينهم، وأمنًا فكريّا وثقافيّا في دنياهم.
لكن بلوغ ذلك الطموح المنشود منذ بدايات الاستقلال لن يتحقّق بمجرد التطاول في البُنيان والتفاخر بالهندسة والعمران، بل بالانتقال من سحر الهيكل إلى عمق الروح، وهذا ما يجعل القادم في مشروع "جامع الجزائر" بمثابة التحدي الأكبر للسلطات العليا ونخبة الوطن الدينيّة.
لا شكّ أن الدولة تدرك تمامًا رهانات هذا الاستحقاق العلمي والحضاري وحتى الإداري، وهو ما كشفه إعلان رئيس الجمهورية مؤخرا عن توكيل هيئة علمية عالية المستوى وشركة كبرى للإشراف على مؤسسة الجامع الأعظم، لأنّ الأمر لا يتعلق بشؤون مسجدٍ تقليدي أو مرفق عام أو فضاء سياحي أو جامعة تعليمية، بل هو فوق كل ذلك منارة عالميّة تجمع بين تلك الوظائف وتسمو عليها في الأهمية.
إنّ المنتظر من "جامع الجزائر"، ليكون حصنًا للمرجعية الوطنية ضدّ الفكر الديني الوافد ومناعة للناشئة من الغلوِّ والتطرُّف ومحتضنًا لأجيال من العلماء والأعلام وقبلةً دوليّة للتبادل الثقافي مع المراكز النظيرة في العالم، يفرض على الهيئات الوصيّة التفكير عميقا والتشاور الموسّع ودراسة كافة التجارب الناجحة، لاعتماد معايير موضوعية ودقيقة وشفافة في انتقاء القائمين على شؤون الجامع، إدارةً وتعليمًا وتدريسًا وخطابةً وقراءةً، من خيرة كفاءات الوطن، مع مراعاة التوازن والتمثيل الجهوي، تعبيرا عن الجزائر العميقة دون الإخلال بالشروط المعياريّة، ولمَ لا الانفتاح على طاقات الوطن العربي، خاصّة المغاربي منه، في إطار زيارات دعويّة وعلميّة.
وفي تقديرنا، فإنّ "جامع الجزائر" لا يمكن أن يقوم بالدور المنوط به دون رعاية سامية من رئاسة الجمهورية، تتكفل برموزه ماديّا ومعنويّا ضمن فئة إطارات الدولة، وربط كل مناشطه بالبرامج الإعلاميّة والمؤسسات المسجديّة والجامعيّة والمدرسيّة، ليكون هو القاطرة التوجيهية التي تؤسّس لمرجعيّةٍ موحدة في الشأن الديني بكل أبعاده، قبل أن يتحوَّل على المدى المتوسط إلى مركز علمي على غرار الحواضر التاريخية في المنطقة من القرويين إلى الأزهر، مرورًا بالزيتونة.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 24/08/2020
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : الشروق اليومي
المصدر : www.horizons-dz.com