الجزائر

ثروة الأجيال!



المفروض أن حماية المال العام وحمايته من شتى أشكال الاعتداءات تسود في كل الظروف، غير أنه أثناء الأزمات تتضاعف المهمة تحسبا للتداعيات المالية الناجمة عن شح الموارد كما هي الوضعية الراهنة، التي تستدعي إعادة بناء مسار التعامل الشفاف مع هذه الثروة وتشكيل وعي جديد بمدى ارتباطها بمستقبل الأجيال. قد تكون الترتيبات التشريعية والأدوات التأطيرية لإدارة المال العام على كافة المستويات ذات جدوى، إلا أن بعث القيم الجوهرية في أوساط الحياة العامة للمنظومة الاقتصادية بكافة قطاعاتها من شأنه أن يضاعف من درجة المسؤولية في التعامل مع مقدرات الأمة والشعور بثقل أخلقة الحياة العامة في تعزيز مسار البناء الوطني المتجدد. في ظل أزمات تحمل تهديدات ترهن إفرازاتها أجيالا بكاملها، ينبغي أن تستنهض الهمم باتجاه وقف استنزاف الموارد والحرص كل في موقعه على ترشيد استعمالها وفقا للضوابط التي تحق الشفافية في إدارة المال العام. أكثر من هذا، يتطلب الموقف الراهن السعي إلى توظيف ناجع للإمكانيات المالية قصد تنميتها ومضاعفة رصيدها من خلال الاستثمار المنتج للقيمة المضافة والتصدير واقتصاد النفقات لإعادة تشكيل احتياطي السيولة النقدية.إنّها سلوكات لا تكلف الكثير ما عدا الصدق في التعاطي مع ثروة تحقّقت بتضحيات قدمتها أجيال بكاملها منذ سنوات ثورة التحرير، التي كان للمال العام في أدبياتها مكانة متميزة، بحيث كانت قيادة الثورة تحرص على تأمينه وتقفي آثار تنقل كل مبلغ يجمع من اشتراكات المناضلين والمواطنين ضمن المجهود الوطني لتمويل مشروع مكافحة الاستعمار وتحرير الأرض من دنس الاحتلال الفرنسي. لقد سخّرت الدولة منذ استرجاع السيادة الوطنية ثروات هائلة موجهة لتمويل برامج التنمية المختلفة من أجل تغيير الوجه الشاحب للبلاد وإعادة اعمارها، وبالموازاة مع الحرص على توظيفه في النطاق المخصص له، عانى المال العام بمختلف أشكاله من ممارسات بعض عديمي الضمير ومحدودي الأفق ممّا نجم عنه استنزاف وتبديد ونهب وإهمال، لتكون الفاتورة باهظة دفعت المجموعة الوطنية ثمنها في فترات محددة. بالرغم من تشكيلة الترتيبات القانونية والميكانيزمات التقنية لمكافحة الفاسد تعززها إرادة سياسية واضحة وصريحة بضرورة كسر شوكته في كل الظروف، إلا أن المهمة لا تزال تستدعي مضاعفة العمل من خلال مواكبة التحولات ورصد كل أشكال التعدي على المال العام ومكافحتها بلا هوادة، دون تأثير على كل جوانب التسيير العمومي أو الحد من المبادرة الصادقة في خدمة الاقتصاد ورفاهية المجتمع. حسب خبراء، تقدّر كلفة الفساد حوالي 12 إلى 15 مليار دولار في السنة ناجمة عن تضخيم فواتير، تهريب للعملة، تلاعب بالتصريحات المخادعة عند الاستيراد، تهرب ضريبي وجمركي، تلاعب في الصفقات العمومية، إتلاف أملاك وتعريضها لخطر النهب والسرقة الخ، وهو ما يعادل تقريبا حجم العجز في الميزانية، لذلك لو يسجل معشر ممارسي الفساد هدنة، يمكن توفير موارد تغطي الفارق الذي تتطلع إليه البلاد في مواجهتها للتحولات العالمية بكل انعكاساتها متعددة الأشكال مثلما تحمله العولمة بأبعادها الجيواستراتيجية، التي تهدد امن وسيادة البلدان الصاعدة المستعصية عن هيمنة القوى العالمية ذات النفوذ. لكن إلى أن يعلن أولئك توبتهم الاقتصادية، وهو أمل ضعيف أمام أنانية الكسب السريع وموضة الربح السهل، يرتقب أن يدخل الديوان الوطني لقمع الفساد نظام عمل جديد أكثر نجاعة وفعالية، بعد إعادة هيكلته في ضوء نتائج عمل لجنة وزارية مكلفة مثلما سبق أن كشف عنه الطيب لوح وزير العدل حافظ الأختام بمناسبة تنصيب النائب العام لمجلس قضاء تيبازة قبل أسابيع، وهي رسالة تحمل إدراكا لمدى الشعور بالخطر المحدق بالمال العام وضرورة صونه، بحيث يواصل أداءه في النمو بالمعايير المناجيريالية الصحيحة وتوسيع اليقظة حوله لكسر شوكة الفساد. ولعلّ التوجه نحو تعزيز الدوائر القضائية المخولة بالمهمة بفنيين ومتخصصين في دواليب الاقتصاد والمالية والتجارة الخارجية والتكنولوجيات الجديدة من بين الأدوات العملية التي تقود إلى تفكيك البنية التحتية للفساد ليعاد الاعتبار للعمل والابتكار والمنافسة بمعيار القيمة المضافة.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)