لم يتبق على موعد اجتياز الامتحان المصيري "البكالوريا" إلا أيام قلائل، امتحان تعلق العائلات الجزائرية الأمل والآمال على أبنائها المترشحين، وتصنفه ضمن "المستقبل الموعود"، تصبح العائلات التي لديها ابن أو بنت مقبلين على الامتحان، مثل الثكنة العسكرية والخلية النشطة.. نظام صارم وانضباط لا يقبل النقاش ولا النقد ولا الاعتراض.. حرص شديد على توفير الجو الملائم والهدوء وعدم الإزعاج، وضبط مواعيد الأكل، والاستثمار قدر المستطاع في تقديم وجبات نوعية ومحفزة، ولمن تيسر حاله، تنظيم فسحات وخرجات نحو البحر وتناول وجبة عشاء بالخارج للترويح والتنفيس، ومطالب الممتحنين مستجابة، بإشارة وحركة أصابع فقط يحضر المطلوب،"كن فيكون". وفي خضم هذه الحركية والتحول والنشاط والاستعداد، تجد الممتحنين المترشحين، في تركيز عالٍ، وحزم وتنظيم برنامج يومي يبدأ في الغالب مع عطلة الربيع. واللافت والجديد منذ سنوات قليلة ماضية، باتت وسائل وأدوات "العلم تقنية"، أو كما تعرف بـ"التكنولوجيا"، وسيلة لا بد منها، لسهولة التواصل بين التلاميذ، ولمرونة وسلاسة متابعة الدروس المصورة عن بعد، في وقت سقطت فيه معادلة المراجعة الجماعية في نسبة، وأضحت تقليدا ضمن مطلع رواية "يحكى أن". "عبد المالك" .. لا مجال للخطأ هذه المرة واستغلال الوقت لتفادي الندم يقول عبد المالك في تخصص العلوم، أنه في عامه الثاني لاجتياز امتحان البكالوريا، إذ لم يحالفه الحظ العام الماضي، وهو اليوم عازم على أن يكون ضمن قائمة الفائزين بهذا الامتحان، لكن شعاره المعتمد "ما نجيبش الباك وما تسناوش مني المستحيل"، وذلك حتى لا يقع في ضغط من محيطه العائلي، والذين بذلوا المحال حتى يستعيد حيويته ويعيد السنة، بعد أن كاد أن يصاب بانهيار عصبي. فهو لم يتقبل عدم النجاح العام الماضي في دورة 2023، والتي كانت بفارق أقل من نقطة تقريبا، ليعود هذا العام، وهو عزم وحزم على أن النجاح هو هدفه. وعن نظامه في المراجعة، يقول أنه وضع برنامجا خاصا به، بدأه منذ مدة، ينهض في وقت مبكر من الصباح، وقبل أن يتناول فطوره، يفتح هاتفه وينغمس في تحميل أسئلة في الرياضيات بالخصوص، لأنه يعشقها ويميل إليها، ثم هي مادة أساسية، ولا يتوقف إلا بعد أن يقضي ساعتين بالتمام، وهو يبحر في حل تلك الأسئلة. وبعدها يتوقف لفسحة ويقصد المقهى القريب من مسكنه، ويتناول إفطاره كما يحب، ويظل هادئا صامتا، يد في فنجان القهوة، ثم لا يلبث أن يطالع قصصا إلكترونية قصيرة، ليقطع في فاصل الجو الذي كان منغمسا فيه، وحدد نصف ساعة للراحة، ثم يعود إلى المادة نفسها، لتثبيت المعلومة ونماذج الحلول، حتى يدركها جيدا ويضعها ضمن خانة "فهمت". ويستمر على تلك الحال إلى الظهيرة، يتوقف من جديد ويتناول وجبة الغداء، ويأخذ فترة راحة لساعة زمن، يلتقي فيها مع أصحابه، يتبادلون الحديث حول شتى المواضيع، بما فيها أحوال البكالوريا والمراجعة. وعقبها يعود مرة ثالثة إلى المراجعة ولا ينقطع إلا مع حلول موعد العشاء، وهنا تأتي صفارة الحكم، ويعلن نهاية يوم كامل من المراجعة. وعن حضوره ومتابعة الدروس الخصوصية أو المراجعة الجماعية ضمن مجموعة على الصفحات الافتراضية، يقول "عبد المالك" أنه لا يفضلها ولا يميل إليها، وأنه وجد في مراجعته الفردية راحته واستيعابه الأفضل. ونادرا ما يدردش ويتواصل مع صديق حول موضوع أو سؤال يحضره على حين غرة، ولا وقت لديه في الحث عن جواب له، وما عدا ذلك فهو يفضل طريقته، والتي تشبه المراجعة الكلاسيكية وتعتمد على ترسيخ الفهم أكثر. التوأم "فطيمة ومحمد" …مراجعة وجدية ومشاجرات شبه يومية تعترف فطيمة أنها جادة وعلى قدر من الحزم والعزيمة، أن تكون ضمن الترتيب الأول للفائزين بشهادة "الباك"، وأنها سطرت برنامجا تراه قويا وصارما ومنهجيا منظما، تبدأ فيه مراجعتها منذ الساعة الثالثة فجرا. تستفيق قبل آذان ديك جارهم "معمر"، حتى صارت لا تحتاج إلى منبه أو صوت والدتها "نوضي يا بنتي تقراي"، تعودت وباتت لديها ساعة بيولوجية آلية. ودون تأخير ودون فطور الصباح، تباشر في عملية "الإحماء والتسخين" لخلاياها الدماغية، بمراجعة مواد أدبية سهلة، تعتمد على الحفظ أكثر من الفهم والحيلة والذكاء. وعندما يؤذن لرغيبة الفجر، تصلي وتدعو وما إن تفرغ، حتى تجدها انزوت في غرفتها في صمت، وواصلت مراجعتها حتى حدود الساعة الثامنة صباحا، حينها تأخذ فاصلا وقسطا من الراحة، وتتوجه إلى مطبخ ومخبر أمها، وتتناول فطور الصباح الذي أعدته والدتها بعناية وترتيب وكأنها أميرة، والباقي خدم وحشم. تعود إلى المراجعة مع حدود التاسعة صباحا، وتبدأ مع المواد الأساسية مثل الرياضيات والعلوم والفيزياء، لا تتوقف إلا مع منتصف النهار، وتعود لفاصل وتأخذ من جديد قسطا من الراحة، تتناول وجبة الغداء وتصلي الظهر، ثم على سريرها مباشرة، لـ"قيلولة متوسطة الطول"، لا تستفيق إلا مع حدود الثانية والنصف إلى الثالثة. وبعدها تواصل رحلتها مع المراجعة إلى غاية الخامسة عصرا تقريبا، وتعترف بدورها وتقول أنها بين الفينة والأخرى، تجدها تسبح في عالم "النت"، وتتواصل مع صديقات لها وأحيانا مع فيديوهات مصورة، لكنها تفضل التواصل المباشر مع أساتذتها بثانويتها، والذين تقول أنها وجدتهم أفضل طريق للفهم والاستيعاب، وهي لا تجامل، ونصيحتها لغيرها أن التواصل المباشر "ليس عنه بديل". في طرفة وحديث ممتع فيه من النكتة والتنفيس، تقول فطيمة أن لديها شقيقا "توأما" يكنى بـ "مموح"، تصفه بأنه بهرجة في البيت، وحلقة تبهجها ولا تستغني عن أثر وجوده، وهو مرشح أيضا لاجتياز امتحان نهاية المرحلة الثانوية "البكالوريا". لكنه ـ تضحك وتقول ـ كسول بعض الشيء، فهو لا يستطيع مقاومة "النعاس"، وسريعا ما يعود إلى سريره ويكمل نومه بعد مراجعة خفيفة وقت الصبح، ولا يستفيق إلا مع الثامنة أو التاسعة. وهنا يتحول إلى منافس لها، وتراه يتحرك، يروح ويجيء والكراس أو الكتاب بين يديه، وأحيانا يتفرس ويبحر مع أصدقائه ويتناقشون في مجموعة حول نقطة ما أو مسألة لم يستوعبها، وأنه في بعض المرات يختلف معها عند النقاش، وهنا تصبح المراجعة معه مستحيلة، وليس لها من حيلة للتخلص منه إلا الخصام ومقاطعة الحديث معه عقابا للفوضى التي أحدثها. والعجيب تقول "فطوم" ، أن "مموح" ينصاع ويلتزم الصمت وكأنه يعتذر، وتجده يركن وتقل حركته، وبعدها "لا أجد من بد سوى مساءلته في موضوع ما"، حتى أقطع الخلاف معه، وتعود الابتسامة تعلو محياه، لكن كالعادة يعود مجددا لتصرفاته ومشاكساته، وهذا حالنا منذ بداية فترة المراجعة إلى الساعة. "هبة وناريمان"... متابعة أساتذة على طريقة المؤثرين ... على عكس سابقها "عبد المالك"، تقول"هبة" في دردشة لطيفة وعفوية بريئة، أنها من أنصار المراجعة الافتراضية بنسبة، وقبلتها متابعة الدروس عبر المواقع الافتراضية. وتعترف أنها وجدت ضالتها في ذلك، وتشعر بالراحة، لكنها تفضل بنسبة أكبر الدروس الحضورية، لأنها تخلق تفاعلا بين الأستاذ والتلميذ. وهذا لم يمنعها من متابعة الدروس عبر المواقع الافتراضية والشبكة العنكبوتية، لأساتذة باتوا مثل "المؤثرين" من نجوم اشتهروا بـ فيديوهاتهم الإجتماعية، وما يراه الشباب والشابات من مادة يعرضونها، ويقيمونها على أنها هامة ومهمة، وأنها لمست في متابعة حلقاتهم أنها تستطيع أن تعيد مراجعة الدرس مرة ومرتين، حتى تستوعب. أما "ناريمان" الوجه الجدي من شريحة المجتهدين والصارمين في حياتهم الاجتماعية والدراسية، فتضع نظارات مثل العباقرة، ولا تجدها تبتسم إلا في حالات نادرة، حتى يقول من يعرفها وأَلِف عشرتها "اليوم هذه الطفلة ماشي نورمال"، حتى في ملبسها تشعر بالجدية والصرامة، من اللون إلى الشكل والتصميم، كل بعناية وترتيب وتصميم مفصل. وهذا ليس غريبا أن تجدها تجتهد في سرعة، وقد ضبطت برنامجا وكأنها محاربة من شاكلة "الغلادياتور"، لا تفرط في أي شيء، من دروس خصوصية، إلى متابعة افتراضية، ولا تترك حصص ممارسة نشاطها الرياضي، وحتى مشاهدة الأفلام. تبدأ مراجعتها من الصبح ولا تتوقف، كل حسب جدول وتوقيت مضبوط، حتى النوم، فهي لا تزيد ولا مراجعة بعد العاشرة ليلا. والمثير في كل هذا أنها أسقطت من جدولها "القيلولة"، فهي ليست من هواة النوم وقت الظهيرة، وتقول "لا تفريط" في أي ثانية أو دقيقة، كل محسوب وبثمنه. بن عيسى عنابي... لا بديل عن المراجعة الحضورية قال البروفيسور عنابي بن عيسى، المختص في عالم التسويق بكل صوره، أن رأيه المتواضع وتجربته في التعليم الأكاديمي، الممتدة لأكثر 37 عاما، أكسبته خبرة ونظرا. وهو يرى أن أفضل طرق المراجعة، هي الاعتماد على القدرات الذاتية للتلميذ، بتسطير برنامج ممنهج، وأنه لا يعارض الاستعانة بالأنترنت والدروس الافتراضية، والتواصل في مجموعات. ويضيف "يكفي فقط في هذه التكنولوجيا أن يحسن صاحبها استخدامها بأسلوب"، ليعود بالتأكيد أن الذكاء الاصطناعي في كل صوره ومشاربه، هو ظاهرة وحقيقة لابد منها في أيامنا، لكنها لا تعلمنا "المنهجية وطريقة الحل"، وهذا الأمر لا يحدث إلا مع التفاعل المباشر مع الأستاذ، وهنا جوهر الموضوع وزبدته.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 26/05/2024
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : ب. رحيم
المصدر : www.elkhabar.com