تفتح ''الخبر''، ابتداء من اليوم، نقاشا هادئا حول الأفكار التي وردت في الحوار
الذي أجرته مع المرحوم أحمد مهساس، والذي أثار ردود أفعال متباينة بخصوص مواقفه من حرب التحرير. وإذ تنشر ''الخبر'' هذا الرد، فإنها تؤمن أن ما يقوله الفاعلون التاريخيون عبارة عن مجرّد شهادات قابلة للنقاش.
لو يتتبع غير العارف بمنهجية التاريخ لشهادات بعض المجاهدين، سيصاب بخيبة الأمل، وسيأخذ نظرة سلبية عن الثورة، وتشوّه في ذهنه، لأنه ليس له بوصلة للتمييز بين التزييف والحقيقة. وبخصوص شهادات مهساس، مثلا، ما عليه إلا أن يطرح سؤالا بسيطا، وهو: لو عاد الشهداء عبان وبن مهيدي وغيرهم، ماذا سيقولون في مهساس وبن بلة وكافي؟ ومن نصدّق منهم؟ هذا ما يدفعنا إلى ضرورة توضيح مسألة هامة لغير المختصين، وهو أن ما قدّمه مهساس وآخرون هي مجرّد شهادات نشجع على الإدلاء بها، لكن الشهادات والمذكرات ليست تاريخا، وتحتمل الحقيقة والتزييف، لأنها تتحكم فيها عدّة عوامل، كتضخيم الأنا والنزاعات الجهوية والايديولوجية والغيرة والحسد والخلافات الشخصية، والسعي لتقزيم الخصوم والتشكيك فيهم وتصفية حسابات معهم... وغيرها من العوامل. أما التاريخ، فيكتبه المؤرخ الأكاديمي وفق منهج علمي صارم، مستخدما مختلف المصادر، كالوثائق والشهادات والمذكرات، بعد إخضاعها للنقد والتمحيص والاستناد على أحدث المناهج.
ويلاحظ في شهادات مهساس التجني والتهميش لقامات كبيرة في تاريخ الأمة الجزائرية، وهو ما يدفع للتساؤل: لماذا هذا التضخيم لذاته مع محاولات استصغاره الآخرين؟ ويشترك في ذلك مع صديقه بن بلة، فكرّر نفس مقولة الأخير، منذ سنتين، مع ''جون أفريك''، عندما قال: ''أنا الثورة''. وبعد مدّة، يطلّ علينا مهساس بنفس المقولة ليضيف نفسه إلى بن بلة، قائلا لولاهما لما كانت هناك ثورة، كما يشترك معه في تغييب آيت أحمد وآخرين عند الحديث عن المنظمة الخاصة، وكأن لا دور لهم. لكن المتتبع البسيط لتاريخ هذه المنظمة يعرف أن آيت أحمد، مثلا، كان نائبا لبلوزداد الذي كان مريضا، حيث تكفل بأكبر المهمّات في المنظمة، قبل أن يصبح لمدة طويلة مسؤولها الوطني الأول، وساهم بشكل كبير في بنائها، قبل أن يعوّضه بن بلة أواخر 1949 ليكتشفها الاستعمار بعد ثلاثة أشهر من ذلك. كما حاول مهساس، مثل بن بلة، التشكيك في عبان رمضان وعضويته في المنظمة الخاصة، ما يجعلنا نتساءل: ما هي أسباب اعتقال عبان مباشرة عند اكتشاف هذه المنظمة عام 1950 مثل الكثير من أعضائها، ومنهم مهساس ذاته؟
حاولنا أن نفهم تجني مهساس على آيت أحمد وعبان وبوضياف وبن مهيدي وآخرين، وكذلك أوعمران الذي نفى عنه قيادته للولاية الرابعة، لأنه تخاصم معه أثناء الثورة. كما كرّر، مرات عدّة، أنه هو الذي صنع هؤلاء كلهم، بمن فيهم بن بلة. كذلك، هل من المعقول أن يكون مؤتمر الصومام مزوّرا كله وسلبيا 100% ولا يوجد فيه أي شيء إيجابي؟ ونعترف أنه في هذه الحالات كلها، يسلم الأمر لمحلل نفسي وليس لمؤرخ. للأسف، مهساس عانى من عقدة التهميش الذي مورس عليه بعد انقلاب .1965 لكن بدل أن يشير إلى ذلك، لجأ إلى تضخيم ذاته واستصغار أبطال كبار، استشهد أغلبهم وهمّش المتبقون منهم، وحرّكته في ذلك عدّة عوامل، ومنها بالأخص العوامل الايديولوجية والنفسية، كتصفية الحسابات مع الخصوم الذين استشهدوا، ولم يتمكن هو وبن بلة من تجاوز هذه الخصومات التاريخية، وهو ما يطرح عدّة أسئلة حول نفسية الرجلين. فكل من يسعى مهساس وبن بلة لاستصغارهم، هم المؤمنون بالأمة الجزائرية، بكل مكوّناتها دون إقصاء، كما أنهم من أشدّ المدافعين عن مبدأي الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، كما نصّ عليها بيان أول نوفمبر، ورفضوا أن تصبح الجزائر بعد استرجاع استقلالها في يد أي مجموعة كانت، بل تكون لكل الجزائريين، لأنه منطق الثورة وجبهة التحرير الوطني التاريخية التي ضمت، آنذاك، كل التوجهات الايديولوجية والثقافية والشرائح الاجتماعية وكل مناطق البلاد، فمن المفروض أن يجد كل هؤلاء أنفسهم في دولة الاستقلال، بمعنى إقامة دولة الأمة الجزائرية كلها، ولا يمكن ذلك إلا بإقامة نظام ديمقراطي تعدّدي. أما بشأن جبهة التحرير الوطني التاريخية، فتصبح إرثا لكل الأمة الجزائرية، كما طالب بذلك بوضياف وآيت أحمد وآخرون عند استرجاع الاستقلال، بدل أن تتحوّل إلى مجرد حزب جهاز، توظفه المجموعة التي استولت على الدولة عام 1962 وتستغفل به شرائح من الشعب، وتحوّله إلى رأسمال رمزي ومطية للوصول إلى الريع والسلطة.
لكن، نلاحظ أن مهساس أقصى الأمة كلها من دورها في إشعال الثورة، وحصرها في نفسه وبن بلة، ما سينتج عنه إقصاء الأمة بعد استرجاع الاستقلال. ولو تتبعنا منطقه، فماذا نقول عن مصالي الحاج ورفاقه الذين ربّوا هؤلاء كلهم على العنف الثوري والوطنية؟ وماذا نقول عن كريم بلقاسم وأوعمران وآخرين كانوا في الجبل منذ 1947؟ وماذا نقول عن كارنا CARNA وهو تنظيم مسلح نشأ في بداية الحرب العالمية الثانية؟ وماذا نقول عن محمدي السعيد الذي طالب مساعدة الألمان لطرد فرنسا؟ وماذا نقول عن آيت أحمد ومجموعة ثانوية بن عكنون ومحمد أزروال ومحمد السعيد معزوزي، عندما شرعوا في العمل المسلح مباشرة بعد مجازر 8 ماي.1945 وهناك الكثير من الظواهر التي لا يمكن لنا ذكرها كلها. يتبع..
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 11/03/2013
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : الخبر
المصدر : www.elkhabar.com