نعم .. منذ طفولتي أحببت فنون الرسم ومنها الفن التشكيلي وفن الكاريكاتور. أبحث في رسوماتها عن كل ما لم يُقل، المسكوت عنه والذي لا يُستطاع قوله في مجتمع مكبّل. ليس بالضرورة ما يضحك ولا ما يسلّي، بل أعمق من ذلك بكثير.أقرأها ذاتيا، دون تدخل صوت أحد أو إشارة يد. هكذا بكل حرية.اكتشفتُ الحس النقدي الخارق لكل ما من شأنه أن يشكل عطبا سياسيا أو بنيويا للمجتمعات، وذلك عندما عثرتُ على رسومات الكاريكاتوري الفرنسي الشهير هونوري دوميي 1808 1879 ذي التاريخ الحافل بالأحداث والمواجهات، نتيجة نقده للمجتمع وخاصة للسلطات الست التي عاش تحتها خلال حياته.
رسوماته لاذعة النقد، الأمر الذي جعله يواجه ضغوطات كبيرة. ومن السخرية أيضا أن حياته لم تؤثَّث بالسخرية وحدها، فقد مات فقيرا وضريرا،وفي بيته الذي اشتراه منه أحد أصدقائه ووعده بأن يتركه يسكن به مدى الحياة. لم يستطع الفنان هونوري دوميي الحضور لآخر معرض أقامه له الشاعر فكتور هيجو قصد مساندته. رسوماته ليست جافة . كيف تكون كذلك وهو الذي تعلم فن الرسم على يد ألكساندر لونوار . وقبل ذلك ترعرع وهو يشاهد أباه في مهنته يصفّف الزجاج داخل الإطار بحذق وفن. لكن قول الحقيقة صعب حتى ولو كان ساخرا.
فهل من الغريب أن أغلب مجموعاتي الشعرية ترافقها رسومات لفنانين تشكيليين؟ كثر هم. من بينهم الفنان الفلسطيني الشهيد ناجي العلي، والفنان الكبير مصطفى الحلاج الذي كان يكتب بعض أبيات لي على لوحات له، وفرانسواز لالوش التي تشيد لوحاتها المذهلة من بعض أبيات لي مترجمة إلى الفرنسية، وغيرهم...
من باب المصادفة وأنا في مدينة دمشق، أن قررت دار الكرمل نشر ( تضاريس لوجه غير باريسي)، اتصل بي مديرها ليخبرني بذلك. فاجأني بأن لجنة القراءة المقررة و التابعة للدار استحسنت القصائد كثيرا، وأوصت بأن تكون طباعة المجموعة الشعرية متميزة، بحيث تكتب القصائد بحرف واضح ويكون الورق بها ورقا بنوعية جيدة وو.. ثم تحدث عن الغلاف وعن الصفحة الأخيرة منه، وضرورة نشر تعريف مختصر للشاعرة مع صورة شخصية ( الأمر الذي لم يكن عادة سارية وقتئذ) .
شكرته جدا ولم أناقشه في أي تفصيل. فقد كنت أفكر مليا في شيء وحيد كان يشغلني ويملأ مخيلتي.
إن كثيرا من أشعار المجموعة ( تضاريس لوجه غير باريسي) كانت قد نشرت سابقا في جريدة الجمهورية سواء في النادي الأدبي أو على الصفحات الثقافية، وفي كل نشر كانت تصاحبها رسومات الفنان الكاريكاتوري والرسام المبدع محمد حنكور، الذي كان يعمل بجريدة الجمهورية. يقرأ النص أولا وعليه يبني عالما مبهرا من الخطوط والأشكال بقلم رصاص واضح لا غبار عليه. يثمِّن المعنى، ويضفي جمالا وعمقا غريبين على جو القصيدة. كم كانت تثيرني رسوماته بما تشعه قراءته المتجلية في انزياحات جديدة على عوالم القصائد، حتى أنها تلتقي كثيرا مع الأسئلة الجديدة التي تقولها القصائد بلسان اللغة و الصورة الشعرية.
- هل يمكن أن أضيف اقتراحا لو سمحتم ؟ قلت لمدير دار الكرمل.
وأنا أتكلم، كنت أشعر بعمق، أن من الأنانية والنكران نشر الكتاب الشعري (تضاريس لوجه غير باريسي) وصدوره دون رسومات الفنان الجزائري محمد حنكور. .
- هنا في دمشق وبيروت فنانون مبدعون أيضا ومتميزون، يمكن أن تتصل بهم دار الكرمل والحصول على رسوماتهم.. حتما سيسرهم ذلك.. !
نعم هم فنانون كبار ما في ذلك شك، وسترافق رسوماتهم صفحات كتبي التي ستصدر لاحقا. وحدث ذلك فعلا. ولكنني وقتئذ وأنا بعيدة عن البلاد وعن وهران، كانت مخيلتي ممتلئة على آخرها بسماء البلاد. ولن أحتفل بصدور مجموعتي الأولى دون تفاصيل المكان الذي ولدَتْ فيه.
لم يمانع مدير دار الكرمل حين طلبت منه التريث أسبوعين فقط قبل النشر، وعدت إلى وهران، و اتصلت بالفنان الكبير محمد حنكور، وسلمت له بقية القصائد القليلة التي لم ترافقها رسوماته، والتي سيشتمل عليها الكتاب أيضا .
كم كان رائعا وسمحا. استقبل الفكرة بفرح ورحابة صدر. لا عجب في ذلك إنه الفنان محمد حنكور. وانكب على قراءتها بكل جدية المبدع، وبعد أسبوع سلمني الرسومات. كانت رائعة حقا. ومن نبل الفنان الحقيقي وسمو أخلاقه (التي ربما هي نادرة الوجود الآن) فإن الفنان الكبير محمد حنكور لم يسلم لي نسخ عن الرسومات، بل أصر أن آخذ الرسومات الأصلية معي، وقد وضعها في مغلف مقوى خاص لحمايتها .
- خذي النسخ الأصلية ستبدو أوضح عند الطباعة ولن تفقد من بريقها. !
وأنا عائدة إلى دمشق وفي محفظتي رسومات محمد حنكور ، الجديد ومنها ما نشر من قبل في جريدة الجمهورية، مرافقا لقصائد ( تضاريس لوجه غير باريس)، كنت متأكدة أن مسؤولي دار الكرمل سينبهرون بإبداع محمد حنكور، أما أنا فقد آليت على نفسي أن أعيد إليه بأمانة الرسومات الأصلية مع نسخة من الكتاب، و هو ما حدث بالفعل .
تحية لك حيثما أنت في غربتك صديقي الفنان الكبير محمد حنكور. تحية من الجمهورية ومن بيت النادي الأدبي الذي فُتحتْ نوافذُه الواسعة المشرعة على الشمس، من جديد.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 04/02/2019
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : ربيعة جلطي
المصدر : www.eldjoumhouria.dz