ولأني كنت اعتبر ضيوفي أناس مهمين وأعزاء على قلبي فقد أردتُ أن القي نظرة على التحضيرات في المطبخ فتطمئن نفسي.كان صوت النسوة ينتهي الى أذني حماسياً ومشجعاً، حتى أني أيقنت بأن الوليمة ستكون مميزة، ولن تخجلني أمام ضيوف سيدخلون بيتي أول مرة! وكان صوت زوجتي أقوى الأصوات وأكثرها حماسا وكذلك صوت الكؤوس والصحون... وأنا أثق جدا في طبخ زوجتي، فهو لذيذ وكل من تذّوقه من الجيران أو الأقارب وصفه بالجيد وبالأخص الحريرة، فهي تطبخ حريرة شهيّة.
وقفتُ عند عتبة باب المطبخ أتفرج عليهن.. أمي تنظف الكؤوس، الآنية، الملاعق والشوكات.. ترتب وتوزع قارورات القازوزة والمناديل الورقية على الموائد.. وبالقرب منها ابنتي الصغيرة تساعدها في تنظيف الأكواب.. أمي تتحدث وابنتي تصغي باهتمام وكأنها امرأة ناضجة! تروي لها حكايات زمان.. أمر الإنسان عجيب، يتطلّع للغد ويحلم بالمستقبل لكنه لا يحب إلا الماضي! واندهشت كيف لابنتي أن تصغي بكل ذلك الاهتمام كأنها تفهم كلمات وحكايات تلك الأيام الماضية، والتي هي جزء من طفولة وشباب جدتها، أي قبل اندلاع الثورة بأكثر من عشرين سنة. أما زوجتي فكانت تجلس أمام القدر الكبير الموضوع فوق الموقد، وهو مخصص للحريرة، وبين الفينة والأخرى تلقى نظرة على الطاجينين فوق الفرن، واحد للمرق الحلو والأخر لمرق الجلبان بلحم الخروف. وفي نفس الوقت تضع أمامها كومة من
الخضروات البصل، الخس، والشمندر والخيار لكي تحضر السلطة.. وبمحاذاتها أختها تُعدّ الشاي والقهوة، فوضعت أمامها إبريقين كبيرين، واحد للشاي والآخر للقهوة فارغين وسكرية ملئت بقطع السكر وملاعق صغيرة.. أما الماء الذي تصنع منه المشروبين فقد كان أمامها في قدر متوسط الحجم تنتظر أن يغلي جيدا.. أختُ زوجتي مطلقة منذ العامين. مات رضيعها بعد ولادته بأسبوع فأُصيبت باكتئاب شديد استغرق وقتا طويلاً رغم ما بذلته زوجتي وحماتي لكن بدون جدوى أما زوجها فلم يتحمل ذلك الحزن، فالرضيع أيضا كان ابنه لكنه لم يقدر أن يتفهم امرأة تفقد طفلها الأول، فصارا كثيرا الشجار ولم يشعرا حتى وجدا نفسيهما في أروقة المحكمة..
ومقابلهما كانت تجلس خالتي رقية، وهي صديقة وجارة قديمة لأمي منذّ الأيام الأولى للثورة، وحتى بعد أن رحلنا إلى بيتنا الجديد استمرت تزورنا بين الحين والآخر، أمي تحبها كثيرا، لذلك اعتبرتْ احترامنا لخالتي رقية أفضل أنواع البِر.
وقد كنا ندعوها عن طيبة خاطر في المناسبات والأعياد أو في شهر رمضان الكريم للبركة.. وهي الآن تفرغ الحليب في الأكواب الزجاجية وتضع التمر في الصحون الصغيرة.. نظرت إلى ساعتي.. كن منشغلات فلم ينتبهن لي فانسللت إلى الخارج ربما أحد الضيوف يأتي مبكرا..
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 07/12/2019
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : عبد القادر رالة
المصدر : www.ech-chaab.net