وسط هذه السوداية التي تأسر الجميع في مختلف المجالات الحياتية وفي جميع الاتجاهات الافقية والعمودية والإبعاد المتعددة، تلوح في سماء الجزائر الملبدة بالغيوم، بقعة ضوء خارج نطاق المصفوفة القاتمة التي لا تلتقطها عدسات الكاميرا، ولا تسلط عليها الأضواء ولا الكتابات، أنها مؤشرات تعيد الأمل للجزائريين وتضعهم على سكة التحضر والتطورو الانسنة، فهي بمثابة المقاييس الحقيقية لرفعة أي مجتمع، قوامها المبادرة التطوعية التي لا تملك لا اللون ولا الطعم ولا الرائحة، يكون فيها خدمة الناس هدفا في حد ذاته، فضلا عن الرفع من الذوق العام للمجتمع، خارج دائرة ما تتقاذفه المشاكل الاجتماعية والاقتصادية وحتى النقاشات السياسية التي أغرقت البلاد في الابتذال والتفاهة في كثير من الأحيان.يمثل التطوع في أي مجتمع لبنة أساسية نحو تعزيز انسجامه وتماسكه، فهو يمتلك تلك القدرة على إمتصاص الصدمات والضربات مهما كانت قوية خاصة في عز الأزمات، لذلك تؤشر بعض المراكز الدراسية على التأثير الذي يحدثه العمل الجمعوي في المجتمع، لقياس مدى تحضره خاصة وأنه يستند على مبدأ الفعل الإنساني التطوعي في تقديم يد العون ومساعدة الناس من دون مقابل .
تماما مثل الفطريات تنتشر الجمعيات في الجزائر، بدأ بمن هي ناشطة على المستوى المحلي، الولائي وكذلك الوطني، بعضها فعال لدرجة لا تغيب عن أي مبادرة في المجتمع من خلال مساعدة الفئات الهشة والفقيرة وفي مختلف المناسبات، وبعضها الأخر لا تكاد تسمع لها لاصوتا ولا صورة فهي محنطة في محفظة وختم مهمل لصالحبها بعد أن قضى بها مأربه الشخصية، بهذا النوع من العمل الجمعوي الفاسد الذي يدعيه البعض هو من ينخر المجتمع في صمت، كون أصحابه يجعلون من الجمعيات مطية للوصول إلى مأربهم الشخصية وليس لخدمة المجتمع كما يدعون، بل هم أقرب بالتكفير بالعمل الجمعوي بعد الحصول على مبتغاهم، من فكرة التطوع الحقيقية التي ينبنى عليها أساسا، لذلك فقد المجتمع الجزائري البوصلة لما تراجع العمل الإنساني التطوعي الحقيقي وأصبح محكوما بتلك النظرة الضيقة المبنية على المصلحة الخاصة في غطاء خدمة مصالح الغير دون مقابل .!
بالتوازي من كل هذا تأتينا بعض الأنباء الراقية جدا، تحمل شعاع أمل للجزائريين، فهي تتحرك بدون تأطير إلا أن فاعليتها أرفع صدى من التنظيمات المؤطرة، ومن أمثلة ذلك قيام شباب متطوع من ولاية خنشلة بتحويل بيت لأربع أيتام دون أبوين، إلى تحفة فنية رائعة بعد إصلاحه وتأثيثه واعادة ترتيبه بعدما كان شبه خرب كمساعدة لهذه العائلة اليتيمة، ووفروا لهؤلاء اليتامى عناء التفكير في إصلاح بيتهم بعد غياب والديهما، إنها لمبادرة عظيمة من قبل شباب فهموا فكرة التطوع بعيدا عن التأطير الذي أصبح يحمل كثير من روائح الفساد وغيرها، غير بعيد عن خنشلة، ففي ولاية باتنة و قسنطينة، وضعت مكتبات في الشارع تحت عنوان هيا نقراو بالعامية، وفتحت مجال التطوع لجميع الأشخاص من أجل المساهمة في هذا المنجز الذي انطلق كفكرة شخص ليحميه الجميع، وما أحوجنا إلى مثل هذه المبادرات الراقية من أجل أن نرفع من مستوى النقاش والافكار في المجتمع، خاصة مع انتشار ثقافة التجهيل التي أصبحت مجسمة على لسان بعض أشباه السياسيين، الذين يرون العالم من ثقب إبرة.
مبادرة راقية ورائعة أيضا احتضنتها قبل سنتين مدينة عين الصفرة حيث تم تخصيص مكتبة في مقهى شعبي باسم الكاتبة والصحفية الراحلة صفية كتو تخليدا لاسمها، بعد أن إنتحرت من على جسر تيليملي بالعاصمة نهاية الثمانينات من القرن الماضي، تلك المبادرة أبقتها حية في قلوب أهل المنطقة ومحبيها، ولم تكن تلك الخطوة الاولى من نوعها بل تم تأسيس جمعية قبل سنوات حملت أسمها في ذات المدينة، هذه المبادرة دعوة صريحة للاطلاع على حياة هذه الفتاة القادمة من الجزائر العميقة، رغم أن الموت اختطفها في عمر الزهور إلا انها بقيت خالدة بهذه المبادرات وبنصوصها التي تحمل روح الشاعر التشلي بابلو نيرودا الذي استلهمت أعمالها منه، ومن الكاتبة والمستكشفة السويسرية إيزابيل إيبرهارت التي عاشت جزءا من حياتها في تلك المنطقة.
ولعل المبادرات الأكثر إنسانية والتي تدل على عمق العمل التطوعي، هي تلك الحمالات التي يقوم بها شبان جزائريون بغية مساعدة المرضى الذين يستلزم التكفل بهم صحيا خارج البلاد، فتجدهم لا يكلون ولا يملون من التحرك لجمع الأموال والتي تصل في بعض الاحيان الى الملايير، من أجل إنقاذ هذا الشخص المريض، لاشك ان هؤلاء الشبان يجسدون المعنى العميق لفكرة العمل التطوعي بالرغم إنه غير مؤطر في شكله القانوني المتعارف عليه .
النشاط التطوعي المبني على فلسفة الواجب أكثر من الحق هو الذي سيدفع بالمجتمع نحو الأمام وليس ذلك النشاط الذي ينتظر الجزاء والشكور من أحد، وليس أيضا هو ذلك النشاط الذي تكون منطلاقاته غير بريئة، حيث يتم فيها الاختباء وراء دوافع شخصية للحصول على مكاسب ومناصب ولما تتحقق يتم رمي العمل الجمعوي جانبا، رغم أن المجتمع يحتاج إلى مبادرات اجتماعية حقيقية بدون كليشهات، مثل التي قام بها شبان وخنشلة وباتنة وعين الصفرة وغيرهم كثر عبر كامل التراب الوطني لا تلتقطهم عدسات الكاميرا، لأنهم يؤمنون بالعمل التطوعي كمبدأ وليس كبزنسة . !
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 10/02/2018
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : أحمد لعلاوي
المصدر : www.alseyassi.com