الجزائر

بعد خمسين سنة من الاستقلال : ماذا أعددنا لهذه المرحلة؟



بقلم: التهامي مجوري
انقضى نصف قرن من عمر الجزائر المستقلة بحلوه ومره، وقال الناس الكثير عن نصف القرن هذا، مدحا وقدحا، ثناء وإفناء، ونحن مقبلون على تحولات ستشهدها الجزائر، كما شهدها بعض العالم وسيشهدها باقيه، منذ بداية الألفية الثالثة. ولا أريد أن أثقل على الناس بما قيل، لا سيما أن جل ما قيل عن هذه العشريات الخمس، من قبيل قول الشاعر العربي: عين الرضا عن كل عيب كليلة *** وعين السخط تبدي المساويا، الذي برمجت على وقعه «ذهنياتنا السقيمة».
وإنما أحاول القفز إلى ما يغفل عنه الناس عادة، في مثل هذه المناسبات، وهو الابتعاد عن الحاضر الذي يعرفه كل الناس، لا لعدم أهميته، وإنما لأن الكلام فيه لا يتعدى الوصف، وتجاوز الماضي إلى الأهم منه، لكونه غير قابل للتغيير والتوجيه، والانتقال مباشرة إلى المستقبل الذي هو بدوره سيتحول إلى حاضر وماضي، ولكنه ليس مجرد وصف أو أقل أهمية، وإنما لأنه ماضيا وحاضرا له قيمة إضافية تراكمية مجدية لكونه برنامجا مستقبليا قبل ذلك، بل لا يكون له من القيمة المضافة إلا بالقدر الذي كان مبرمجا.
لا شك أن المعاناة هي الواقع، والمآسي هي الواقع، وما يراد تغييره إلى الأحسن هو الواقع. والتفكير في تغيير هذا الواقع، هو أهم ما يشغل الناس في حياتهم، وهذا صحيح.. وكذلك الماضي أيضا هو أخطاء ينبغي تجنبها، ونجاحات يجب تثمينها، وهذا صحيح أيضا، ولكن المستقبل لا يقف عند هذا الحد من التغني بالأمجاد والتقزز من الإخفاقات، وإنما يتجاوزهما إلى رؤية واضحة لتحديد موقف ثابت من قضايا معينة كائنة ومحتملة، وعليه فإننا لا نرى أنفسنا ملزمين بالالتفات إلى الحاضر والماضي، إلا بالقدر الذي يحدد لنا المرحلة التاريخية التي نحن فيها، لتجديد آليات التعامل معها. نحن نتمتع بالانتساب لثورة عظيمة وهي ثورة أول نوفمبر 1954، ولكن هذه الثورة، ربما لو وضعناها في مسارها التاريخي لوجدناها تأخرت عن موعدها؛ لأن موعدها المناسب كان ما بين سنتي 1939 / 1945، حيث كان الغرب برمته منشغل بمشاكله، وكل شعب تحرك في مثل هذه المناسبة مرشح لتحقيق استقلاله بأقل الخسائر. ولما اندلعت الثورة لم تندلع بمقومات إجماع خططت له الحركة الوطنية، وإنما اندلعت بما يشبه المغامرة، بعد صراعات ونزاعات بين أبناء الحركة الوطنية..، ومع ذلك شقت طريقها في الواقع باحتضان الشعب لها، فرعاها الشعب رعاية كاملة، وسقاها بدمه الزكي سقاء الفلاح الذي يحرص على زرعه، إلى أن حققت القدر الذي كان واضحا في أذهان الناس ومحل إجماع وتفهم بينهم، وهو الاستقلال.. فاستقلت الجزائر، ومر على استقلالها نصف قرن من الزمان، لكنه استقلال ما أظنه الاستقلال الذي كانت تطمح إليه مشاريع الحركة الوطنية بجميع فصائلها، من الإصلاحيين إلى الشيوعيين إلى الثوريين، وأكبر دليل على ذلك، لا نكاد نجد واحدا يثني على سنوات الاستقلال بالثناء المطلق أو الثناء الغالب على الأقل، بمن في ذلك الذين كانوا في السلطة أو لا يزالون فيها، والسبب في تقديري أن العجز كان في تغييب معادلة المستقبل، من خارطة التخطيط والعمل. لقد كان رجال الثورة يتشبهون حقيقة بمجاهدي الصحابة رضي الله عنهم، تفانيا وتضحية واجتهادا في الانتصار للقضية الوطنية، كما كانوا ينظرون إلى الواقع كواقع يتعاملون معه، سواء بفعل الأفضل أو باختيار الأقل سوء.. وتلك هي الواقعية العملية، ولكن المعيار الذي كان واضحا وضوح الشمس، هو الاستقلال العسكري، أو أن الاستقلال كان يعني بالنسبة إليهم شيء ليس أكثر من خروج فرنسا، ولو كان في البرنامج شيء أكثر من الاستقلال العسكري، لاستمرت الثورة إلى أن تحقق أهدافها كاملة، لكن لما كان العجز في التصور، وقع الخلاف والعراك والشتات بمجرد الحصول على الاستقلال بمغادرة العدو البلاد. أترك الأمر للدارسين، وأنتقل كما قلت إلى المراحل المقبلة، وهي ماذا أعددنا لهذه المراحل اللاحقة؟؛ لأن الاستقلال بمعناه التقليدي لم يعد له معنى، إذا لم يكن محصنا بالمعاني والقيم الاجتماعية والثقافية والسياسية التي يعرفها العالم اليوم.. إذ لم يعد الاستقلال مجرد دولة يمكنها أن تستقل بنفسها وقيمها عن العالم، ولم يعد لاستقلالها قيمة إن لم يكن لها من القوة الفعلية في الفكر والممارسة ما تفرض به وجودها؛ بل إن منطق «تحالفات الأنظمة» الذي كان مجديا في وقت سابق، لم يعد له نفس الثقل الآن، بسبب ثورة الاتصالات التي قربت بين الشعوب ودمجت ثقافاتها في بعضها البعض، بحيث سهلت انتقال القيم بينها سلبا وإيجابا.
فمفهوم الدولة قد تغير في الكثير من جوانبه، بحيث لم يعد لها من القوة إلا بالقدر الذي تتناغم فيه مع شعبها ومؤسساته الأهلية، وليس لها من الفاعلية في الواقع إلا بالقدر الذي تقنع فيه العالم بشرعيتها، وليس لها من الشرعية إلا بالقدر الذي تمكن فيه شعبها من ممارسة واجبه الاجتماعي والسياسي، وليس ضمان حقوقه فحسب. وكل ذلك ناهيك عن منطق الصراع المفروض علينا من قبل الغرب، الذي لا يريدنا إلا سوقا واسعة لمنتجاته الاقتصادية، وعصب استهلاكية يسوقها إلى المسالخ كما تساق كالأنعام. إننا اليوم نمر بمرحلة جديدة تعاد فيها صياغة خريطة العالم من جديد، والجزائر في مستوى من الثقل الجيوستراتيجي، لا يسمح لها بالركود؛ بل الأولى لها أن تكون متحركة حتى ترتقي إلى مستوى ثقلها في المنطقة المغاربية على الأقل. وإذا كانت بعض الذهنيات، لا تزال تحنّ إلى صناعة الرأي بعقلية «الثورة الزراعية»، فإن التاريخ قد ألقى بتلك العقليات إلى مزابله غير آسف عليها؛ لأنه اليوم ينظر إلى أن مفهوم الأمية هو العجز عن استعمال الكمبيوتر، وليس الجهل بالقراءة والكتابة، ولا ينتظر المخلفين والعاجزين عن مسايرة الركب.. ومثلما تأخرت الثورة عن موعدها بسبب الضعف السياسي، ولم تحقق الاستقلال الذي كانت تنشده الحركة الوطنية لقصورها، فإن هذه المرحلة التاريخية التي نمر بها قد نحرم من بركاتها إن لم ننتبه إلى عملية التحيين الواجب القيام بها في ذهنيات سياسيينا وإداريينا وغيرهم من الفئات الرسمية والشعبية.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)