الجزائر

بصمات مسلم في يوغسلافيا 1981



في الليلة الثانية من إقامتنا بيوغسلافيا، سبتمبر 1981، دعاني صديقي طيبي إلى العشاء في مطعم يعرفه، وكان طيبي قد زار بلغراد سنة 1979 وأعجبه هذا المطعم المتخصص في أطمعة السمك. خرجنا من الفندق حوالى الساعة الثامنة ليلا. كانت بلغراد نصف مضاءة، الشوارع الكبرى وحدها كانت تنعم بنور المصابيح أما باقي المدينة، فإنه كان يرزح تحت الظلام الدامس، كانت أزمة الطاقة في أوجها! حين دخلنا المطعم، وجدناه مكتظا. كان العديد من الزبائن مصطفين ينتظرون دورهم. دخلنا الصف ورحنا ننتظر دورنا. راح طيبي يحكي لي عن يوغسلافيا تيتو التي رآها سنة 1979، ورحت أسأله من حين لآخر عن هذه الأزمة المفاجئة. قال لي طيبي إنها أزمة كانت منتظرة، ونحن كذلك، فإذا برجل يبدو في حدود الثلاثين من العمر يسرع إلينا، قال: "آرابي.. آرابي" (يقصد "عربي"). قلنا: نعم، فإذا به يجذبنا ليخرجنا من الصف. لم نكن نفهم لغته لكن إشاراته قادتنا رفقته إلى طاولة منعزلة في مدخل المطعم. كان الرجل سكرانا لكنه أفهمنا أنه "مسلم" حين أجلسنا إلى طاولته، فهمنا بعد لأْي أنه من سراييفو وأنه يعمل في هذا المطعم كنادل والليلة هي ليلة راحته. بعد قليل، قام وذهب إلى المحسب، فجذب شابة كانت تعمل وراءه، قدمها لنا كخطيبته، كانت حلوة وخجولة. فهمنا من حديثها معه أنهما سيبحثان لنا عن طاولة. ذهبت الشابة إلى عملها وعاد هو ليرافقنا.  راح يقرأ لنا سورة الفاتحة التي حفظها بالعربية، كما راح يعب الشراب بدون انقطاع. تذكر كلمة فقالها لنا وهو يبكي، إنها كلمة تشبه العربية: "مأبون". بصعوبة أفهمنا أنها كلمة "مغبون" بالعربية، أي أنه يشرب لأنه "مغبون"! حين حصل لنا على طاولة في المطعم، قبل الكثير من الزبائن، أفهمنا بالإشارات أن الصرب يحتقرونه هنا لأنه "مسلم من البوسنة". في أغلب الأحيان يقولون له "ارجع إلى بلدك، اذهب إلى تركيا، أنت لست يوغسلافيا. المسلمون ليس لهم مكان هنا"! كانت صديقته التي التحقت بنا ونحن نأكل تعرف بعض "الفرنسية فأفهمتنا قمة العنصرية الصربية"، رغم أنها من هؤلاء الصرب الذين شجعهم حكم تيتو على "السيطرة" على باقي سكان يوغسلافيا المتعددة الأعراق! طوال الأكل، كان "المسلم ميماد ترولوفيتش" يقرأ لنا القرآن، كان يحفظ سور "الفاتحة وقل هو الله وقل أعوذ برب الناس، ثم يبكي كالصبي ويروح يردد "مأبون.. مأبون"، أي أنه "مغبون". في لحظة من اللحظات، رأيت دمعتين تنزلان من عيني طيبي، وسرعان ما أجهشت أنا الآخر بالبكاء. عانقني ميماد وهو منتفض الجسم بكاء. مازالت هذه اللحظات في ذاكرتي. حين نكّل الصرب بمسلمي البوسنة في التسعينيات، فهمت بعمق "ميماد المغبون" وشقت ذاكرتي مأساته. يكتبها: جيلالي خلاص


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)