منذ عام أحيت جريدة الجمهورية ذكرى اغتيال قلم من خيرة أقلامها استطاع في ظرف وجيز أن يضمن لنفسه مكانة بين كبار النقاد والمبدعين، وأن يصبح واحدا من الفاعلين الثقافيين الذين لم تستغن ولايات الوطن عن دعوتهم لتنشيط ندواتها الفكرية والأدبية. إنه تلميذي وصديقي بختي بن عودة ، وخلال مداخلة معالي وزير الثقافة الأخ عز الدين ميهوبي الذي عايشه لفترة طويلة أثناء الخدمة الوطنية و ترسخت بينهما صداقة متينة لانتمائهما معا إلى المجال الأدبي و إثر الكلمة التي ألقاها أستاذي الدكتور عبد المالك مرتاض، وراح يعدد فيها مناقب طالبه بختي بن عودة عاودتني ذكريات جميلة قضيتها مع هذا الاسم الذي ظل راسخا في ذهني شأنه شأن المئات من تلاميذي الذين يتبوؤون اليوم مناصب محترمة في مختلف الوزارات والإدارات مما يخفف من وطأة عدم التحاقي بوظيفتين هامتين أسندتا إليّ إثر تخرجي من الجامعة في بداية السبعينات، وهما رئاسة الإنتاج بالإذاعة و التلفزة وامتهان الصحافة بجريدة الجمهورية ولكنني اخترت التعليم صحيح أنني فرطت في منصبين هامين لأسباب لا حاجة لذكرها ليسوقني القدر إلى تدريس تلميذي بختي بن عودة في ثانوية كاستور" مصطفى هدام" ليصبح واحدا من أعز أصدقائي فيما بعد .شغف بالحداثة كان طالبا هادئا عاديا في الظاهر ، ملامحه توحي أنه يستمع إليك ،يحملق فيك وأنت تشرح وتحلل الدرس ، تحس انه يدقق في كل كلمة تتفوه بها في نفس الوقت تشعر أن عقله شارد وفكره تائه مشغول بأمر ما .مشاركته أثناء الدرس قليلة بل تكاد تنعدم ، فهو يكتفي بالإنصات في غالب الأحيان لا يتحدث ولا يجيب إ‘لا إذا أمرته بذلك لم يكن يبذل أي جهد يذكر للحصول على علامات مرتفعة .يكتفي بما يحقق به المعدل لم تنجح محاولاتي في استقطاب اهتمامه ودفعه إلى إثبات وجوده كغيرة من بعض زملائه المتألقين. مع مرور الأيام أثار انتباهي تجاوبه السريع كلما آثرت قضية ذات صلة بالحداثة، وكأنه مل من اجترار ما تركه الأدباء الجاهليون والأمويون والعباسيون ، بدأت ملامح التغير تبدو عليه وصار يستفسرني ويناقشني في قضايا ومسائل فكرية ولغوية وأدبية لم يجرؤ زملاؤه على طرحها و الخوض فيها و ربما قصورهم هو الذي جعلهم لا يجارونه في هذه الوثبة التي لا عهد لهم بها فيه. و لمح لي بعض التلاميذ أن ذلك لا يكون إلا من باب اختبار كفاءة الأستاذ وقدراته، غير أنني لم أشعر قط بأي إحراج بل شجعته على ذلك ما دام كل شيء يجري وفق المقرر الذي سنته وزارة التربية و التعليم.تطلعات فكرية و أدبيةذات مرة سألني عن موقفي من النصوص الأدبية المقررة في السنتين الأولى و الثانية ثانوي و التي ترتبط كلها بالعصور الجاهلي و الأموي و العباسي، و كانت وجهة نظري لا تختلف عما يتصوره و يختمر في ذهنه ، وتأكدت حينها أن هذا الطالب يشعر أنه سجين منهاج يحول دون تحقيق هواجسه و تطلعاته الفكرية والأدبية ، و أن عدم اكتراثه في البداية يعود إلى عدم رضاه عن ذلك المنهاج المحافظ الذي يصور حياة غير حياته وعصرا غير عصره و بالتالي رفض احتضانه و التجاوب معه و تعامل معه مكرها مجبرا، تقربت منه أكثر لإحساسي بنبوغه و تفوقه ،و بالتالي لا بد من مجاراته فيما يتوق إليه بعد العمل على إقناعه بضرورة الإطلاع على سيرورة الحركة الأدبية و الفكرية من خلال التعرف على خصوصيات كل عصر، و يعد هذا التدرج ضروريا لكل طالب مبتدئ. و بغض النظر عن هذا فهذا منهاج الوزارة و نحن ملزمون بتطبيقه و التقيد به، و كنت أمنح الطلبة كامل الحرية في الموافقة أو الاعتراض على أية فكرة لا تعجبهم و أن يطرحوا رؤاهم و أفكارهم كما يرونها وكما يعتقدونها هم، و هنا وجد المرحوم بختي ضالته و أبان عن قدرة خارقة في النقد و الانتقاد من خلال تصور ومقاربات لا عهد لزملائه بها، و كان أحيانا يصطدم فكريا مع بعضهم، و قد اطمأن إلي عندما أحس أنني أشاركه هواجسه و تطلعاته بشيء من التحفظ لأنني ملتزم بما تقتضيه متطلبات الوظيفية التعليمية.إرادة وطموحو يكبر بختي و يصبح بدوره شخصية أدبية معروفة، و بقيت علاقتي به على ما يرام، نلتقي من حين لآخر لقاء الأصدقاء نتجاذب أطراف الحديث التي لا تخلو في الغالب من استرجاع ذكريات ثانوية كاستور ،ذات مرة وأنا خارج من مرآب " سيتي بيري " بعد أن ركنت سيارتي التقيته و هو يتأبط جريدة" المساء " ،و مجلة نقدية مغربية. بعد التحية قدم لي العمود النقدي الذي كان يكتبه الأديب رشيد بوجدرة حول الأدب الجزائري ودعاني إلى مقارنته بما كان يكتبه الناقد المغربي محمد ينيّس في المجلة المذكورة. صدمت وأنا أقف على سطو لم يترك لا نقطة و لا فاصلة و الاستبدال الوحيد هو استبدال الأدب المغربي " بالأدب الجزائري"، قال لي ما الموقف الذي تتخذه في مثل هذه الحالات ؟، قلت له رشيد بوجدرة أديب كبير و لكنني وقفت مشدوها أمام هول ما رأيت ،و عليك أن تتريث قبل إصدار الحكم يجب الاتصال بالشخص المعني و بالجريدة للاستفسار، وأرجوك أن لا تثير القضية في الجرائد حتى لا يتشفى البعض في روائي جزائري كبير أكن له شخصيا كل التقدير ، ابتسم رحمه الله و عرفت أن ابتسامته تخفي ما عزم عليه و أنه سيكشف هذه الخطيئة للرأي العام. و نعرف جميعا ما أثارته من جدال حاد شارك فيه المرحومان عمار بلحسن و الطاهر وطار و أدونيس و محمد ينيس وغيرهم من الأدباء و النقاد. التقيته بعد ذلك و حاولت أن أعاتبه على تمريغ سمعة بوجدرة في الوحل، ابتسم كعادته و قال لي ربما مجاملة. أعرف أنك تتخذ تلاميذك النجباء مصدر فخرك، فهل ترضى لي أن أسكت عن أمر خطير كهذا ؟!، ربت عل كتفه و قلت له كان مسلسلا مثيرا حقا بجميع تفاصيله. و قد أسر لي يومها أنه مدعو لملتقى أدبي بالإمارات و أنه سيعمل على الإقامة هناك و العمل بإحدى جامعاتها .
تاريخ الإضافة : 23/05/2016
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : طموح عبد الله
المصدر : www.eldjoumhouria.dz