غداة الاستقلال الوطني كانت مهمة القادة في تلك الآونة بسيطة لكنها شاقة تمثلت في وضع الأسس الأولى لاقتصاد مزدهر و قادر على التكفل بالحاجيات الهائلة لاسيما الاجتماعية منها لأمة ناشئة و متعطشة للالتحاق بركب الأمم الحرة و المتطورة و الديمقراطية.
و قد شرع القادة الجزائريون بطريقة براغماتية في بناء الصرح الاقتصادي الوطني الذي بلغ خمسين سنة منذ الاستقلال الوطني حيث بدت الرفاهية الاقتصادية من خلال احتياطات صرف تجاوزت 200 مليار دولار و نسبة ديون ضئيلة جدا..
و قد أفضى إنشاء بنك الجزائر المركزي الذي يعد الرمز السياسي للسيادة الوطنية يوم 13 ديسمبر 1962 أي خمسة أشهر بعد الاحتفال بالاستقلال الوطني من خلال القانون رقم 62-144 الذي صوت عليه المجلس التأسيسي إلى فتح الطريق أمام مهمة مجيدة هي تحقيق التنمية الاقتصادية و الاجتماعية للأمة. و عليه باشرت الجزائر التي تحلت برغبة شديدة في التحرر نهائيا من التبعية الاستعمارية الاقتصادية هذه المرة مسارا طويلا حول التنمية الاجتماعية و الاقتصادية أولا من خلال إنشاء شركات وطنية تتكفل بالمضي بالاقتصاد الوطني نحو الأمام و وضع القواعد الأساسية لتقدم البلاد.
و تميزت سنوات "الستينيات" و هي المرحلة التي اتسمت بهشاشة المناطق الريفية و وضعية صعبة بالمدن بوضع الورشات الخاصة بأهم أسس الاقتصاد الوطني. و قد عكس إنشاء مجمع سوناطراك في سنة 1963 و المكلف باستئناف الإنتاج البترولي و الغازي للبلد و إنشاء البنك الوطني الجزائري هذه الإرادة السياسية لتلك الحقبة و الرامية إلى المضي نحو تحقيق التشييد الاقتصادي لبلد سجل تأخرا كبيرا كان يجب ملأه بسبب الفترة الاستعمارية الطويلة.
و قد تزامنت نهاية الستينيات بالانتصار السياسي الكبير الذي حققته الجزائر التي نجحت في تأميم ثروات باطن أراضيها فورا خصوصا المحروقات التي كانت تستغلها قبل ذلك الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات الحليفة الطبيعية للقوى الاستعمارية. و منذ ذلك الحين فتح المجال أمام الورشات الهيكلية الكبرى حتى و إن كانت من الناحية المالية " جد مكلفة". و عليه أعلن الرئيس الراحل هواري بومدين-بلا
انقطاع في الوقت الذي أدى فيه أول صراع بترولي إلى انفجار أسعار الخام- عن انجازين كبيرين و هما الثورة الصناعية و الثورة الفلاحية.
و كانت هاتين الثورتين مكملتين لبعضهما البعض " صناعة جاهزة للاستعمال" و موجهة نحو وضع شبكة من الأقطاب الصناعية الكبرى لاسيما في مجال الصناعة-الغذائية و الميكانيك و أخرى تتمثل في فلاحة مصوبة نحو الاستقلال الغذائي.
و بالفعل تكفل هذان القطاعين بتحريك الآلة الاقتصادية الوطنية لإنتاج التمويلات الداخلية دون اللجوء إلى المؤسسات الدولية التي لاتزال تهيمن عليها اللوبيات الامبريالية من خلال الإسهام الكبير لعائدات المحروقات.
و انطلاقا من منتصف السبعينيات إلى غاية نهايتها شهد قطاع آخر ازدهارا شد انتباه السلطات العمومية و هو قطاع السكن. و من خلال انفجار الأزمة العمرانية في السبعينيات في إطار النزوح الريفي الهام بفعل توفير مناصب العمل في المصانع المنشأة قرب المراكز الحضرية أضحى وضع برامج لبناء سكنات أحدى أكبر التحديات الاجتماعية التي كان يتعين على الجزائر رفعها. في هذا الصدد يرى حميد خلدون أستاذ في علم الاجتماع و خبير دولي يقيم حاليا في كندا أن " الأمر لم يكن بسيطا إذ كان يجب وضع تدريجيا وسائل تنمية اقتصادية متوازنة تستطيع تلبية المطالب الاجتماعية مقارنة بطلب متزايد على السكنات اللائقة". و استرسل يقول " بصفة عامة مرت محنة السنوات الأولى من الاستقلال التي تميزت بندرة بعض المواد الغذائية و انعدام الإنتاج الصناعي و الزراعي في ظروف اجتماعية ايجابية مما سمح بإطلاق مشاريع هيكلية كبرى من منتصف السبعينيات إلى الثمانينات".
و بدءا من "الثمانينات" و في سياق الانتقال التدريجي للاقتصاد المسير منذ السنوات الأولى للاستقلال إلى اقتصاد سوق تم فتح ورشات أخرى مثل الطرقات و السدود و المنشات القاعدية الخاصة بالنقل الحضري و البحري و المرفأي و التنمية الفلاحية و السكن و الصناعة في حين أنه من الناحية البنكية و المالية كانت الجزائر تملك مؤسسات مالية هامة كان اطارتها من خرجي الدفعات الأولى من الجامعة الجزائرية.
غير أن هذه الديناميكية شهدت تباطئا مصدرها " أزمة" التسعينيات بسبب الإرهاب الذي استهدف لاسيما القطاع الاقتصادي من خلال تخريب عدد من المصانع و الأرضيات الاقتصادية. و قد عاشت الجزائر خلال هذه الفترات أوقات صعبة عندما تعلق الأمر بالتفاوض مع صندوق النقد الدولي حول انتعاش مالي مرفوق بمخطط تعديل هيكلي جذري اثر انقطاع مأساوي في الدفع ناتج عن انهيار أسعار البترول. و لم يستأنف " النمو" سوى عند نهاية التسعينيات في ظل انتخاب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي سطر ثلاثة برامج طموحة كبرى للإنعاش الاقتصادي (2000-2005/2005-2010 و أخيرا 2010-2014. و كان آخر هذه البرامج الخاصة بالإنعاش الاجتماعي و الاقتصادي الذي رصدت له ميزانية " ضخمة" قيمتها 286 مليار دولار في مستوى طموحات الجزائر و خمسين سنة بعد أن استعادت استقلالها: تلبية الحاجيات الاجتماعية للجزائريين فعليا. غير أن ذلك لم يكن سهلا إذ أن الناتج الداخلي الخام للجزائر سجل سنة 1962 تراجعا بنسبة 69ر16 بالمائة (مقابل ناقص 61ر13 بالمائة في سنة 1961). و بعد سنة من الاستقلال ارتفعت هذه النسبة إلى 31ر34 بالمائة انخفض مجددا إلى 84ر5 بالمائة في سنة 1964 و ترتفع إلى 80ر10 بالمائة في 1968 ثم ترتفع إلى 42ر27 بالمائة في سنة 1972 السنة التي أعلن فيها عن "الثورات الثلاثة" : الصناعية و الزراعية و الثقافية". و حسب البنك العالمي فان المعدل السنوي للناتج الداخلي الخام للجزائر قدر خلال الفترة الممتدة من 1961-2010 ب 8ر3 بالمائة.
نوال.س
****
50 سنة من الاستقلال .... تحسن ملحوظ للمستوى المعيشي للجزائريين
بعد خمسين سنة من استرجاع السيادة الوطنية توجد جميع المؤشرات الاجتماعية و الاقتصادية تقريبا في مستوى ايجابي سيما من خلال وفرة مالية مريحة و تحسن ملموس للتغطية الاجتماعية.
ان جزائر الالفية الثالثة هي في الواقع تلك الخاصة بالورشات الكبرى و التحديات الاقتصادية العظمى من خلال برنامج خماسي للتنمية بغلاف مالي يقدر 286 مليار دولار في ظل سياسة اجتماعية تسعى لتحسين الظروف المعيشية للجزائريين.
لقد تغيرت الامور منذ اولى لحظات الاستقلال التي تميزت بطلب اجتماعي كبير و ضغط على الخدمات الاجتماعية الاساسية: الا ان الاهداف اصبحت موجهة اليوم نحو نوعية حياة الجزائريين و استفادة افضل من الخدمات الاجتماعية و تحسين المؤشرات الاستهلاكية.
لقد كان من الضروري غداة الاستقلال انجاز و بناء كل شيئ: وضع اسس اقتصاد مزدهر مع تاميم المحروقات و تكوين الاطارات الجزائرية من اجل التكفل بالاحتياجات الكبيرة للوطن و اعطاء صورة في الخارج لبلد في طور "التشييد".
أضف إلى:
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 03/07/2012
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : اوراري م
المصدر : www.elmassar-ar.com