ما هو الدور الذي لعبه الأمير عبد القادر من الناحية الاجتماعية والدينية والحضارية في بلاد الشام؟
لما جاء الأمير عبد القادر عام 1855 استقبل استقبالا يضاهي استقبال صلاح الدين الأيوبي. وكانت بلاد الشام قد شهدت في ذلك الوقت انحلالا نتج عن تمازج الثقافات ودخول الثقافة التركية التي ركزت على أنواع الأطعمة واللباس دون الثقافة الأدبية والفكرية وحتى في المجال الديني تداخلت المذاهب وكثرت الطقوس والشعوذة ولما دخل الأمير الجامع الأموي سيطر على الوضع ووحد الصفوف وأصبح مرجعا قويا في الفتوى حتى قيل 'أيفتى والأمير في دمشق'، مع العلم أن دمشق كانت تعج بالعلماء المتضلعين في الفقه وكافة العلوم الشرعية. وقد أهلته هيبته وتحكمه العلمي والسياسي للدفاع عن المسيحيين. كان من أشد المدافعين عن شق قناة السويس من منطلق أنها بوابة تفتح الحوار بين الشمال والجنوب وتدفع بحوار الحضارات. أقنع المصريين والسعوديين قبل أن ينادوا المهندس فرديناند دي ليسابس وعند تدشين القناة حضر الأمير عبد القادر إلى جانب الخديوي اسماعيل وملكة بريطانيا وملوك أوروبا. اقترح على الأمير عبد القادر أن يكون ملكا على كل العرب والمسلمين في 1880 فرفض لأنه كان يرى أن ما كان له أن يقود العرب وبلاده الجزائر لا تزال تحت الاحتلال. وأريد أن أذكر أن الأمير كان السبب في تأخير احتلال بلاد الشام لأكثر من 60 سنة حيث هدد الجنرال دبوفور بالقضاء عليهم إن هاجمت البوارج الحربية ال79 التي كانت ترسو عرض طرابلس وبيروت.
وحتى أولاده واصلوا العمل السياسي والعسكري في حياته ومن بعده...
نعم واصل أولاده العمل حتى في حياته، جاء ابنه محي الدين إلى الجزائر عن طريق ليبيا من وادي سوف بمساعدة ناصر بن شهرة وربح معارك في تبسة والشريعة ومسكيانة حتى نادى نابليون الثالث الأمير وذكره بالمعاهدة التي أمضاها مع الفرنسيين وهو ما جعل محي الدين يتوقف عن محاربة الاحتلال الفرنسي نظرا لعدم تهيؤ القوة لإتمام معركة التحرير. وهناك ابنه الآخر وهو علي الذي كان نائب رئيس برلمان الإمبراطورية العثمانية. وقد جاء إلى ليبيا وحارب الإيطاليين قبل عمر المختار، أما ابنه عبد المالك فقد كان جنرالا لدى الدولة العثمانية جاء وحارب في الريف المغربي قبل عبد الكريم الخطابي وأعلن نفسه ملكا على فاس. أما الهاشمي، وهو أب الأمير خالد، فقد نفي إلى بوسعادة. أما الأمير سعيد فقد كان على رأس حكومة ومعه 4 وزراء جزائريون. وهناك جزائري آخر ليس من أسرة الأمير وهو محمد تاج الدين الحسني الذي تولى رئاسة جمهورية سوريا لمدة ثلاث سنوات من 1941 إلى 1943.
يبدو أن الأمر اختلط بين من بقي من عائلة الأمير ومن يدعي النسب إليه
بقي بعض من أحفاد الأمير وعائلته هناك. لكن للأسف هناك من اغتنم الفرصة ممن كان من حاشيته ليدعي له نسبا للأمير عبد القادر. وهناك منهم اليوم من يشغل مناصب ديبلوماسية كممثل للجزائر في هيئة الأمم المتحدة. وحتى رئيس مؤسسة الأمير عبد القادر لا علاقة له بالأمير. وبالمناسبة أريد أن أذكر أن المؤسسة، وأنا أحد أعضائها، فاشلة وعقيمة وتغيرت في كم من مرة. خلال مهامي كسفير في سوريا نبهت إلى الوضعية المزرية التي تعيشها عائلة الأمير وتراثه الذي هو من أملاك الدولة الجزائرية، لكن لا أحد حرك ساكنا بمن فيهم مسؤولو الدولة. عندما كنت سفيرا هناك بدمشق نقلت مقتنيات الأمير عبد القادر إلى الجزائر: منها مخطوط كتاب 'المواقف' ومخطوط 'تحفة الزائر' ومخطوط 'ديوان شعر الأمير عبد القادر' إضافة إلى أدوات الأمير. وأحسن من كل هذا مصحف الأمير الذي يعتبر سعره غاليا إذ بلغ آنذاك 50 مليون دولار مع بداية المزاد. والأمير كان له قصران قصر العمار وقصر الدمر الذي كان يفكر فيه في هضبة تطل عل نهر بردى، جاءت وزيرة الثقافة خليدة تومي كما جاء وزير الخارجية آنذاك عبد العزيز بلخادم وعرضت عليهما الوضعية المزرية التي آل إليها القصران، لكن عادا أدراجهما دون أية استجابة للنداء. وعملية الاسترجاع لا تكلف الدولة الجزائرية إلا ثمنا بخسا لا يتعدى 13 مليار سنتيم مع جميع عمليات الترميم. فهي في متناول أصحاب الشكارة كما يسمون عندنا. كانت تكفي رسالة رسمية من بضعة أسطر تقول فيها السلطات إن الجزائر مستعدة لإعادة تثمين التراث الجزائري ببلاد الشام لأتحرك مع السلطات السورية. بعد أن فشلت جميع المساعي التي بذلتها مع وزارتي الخارجية والثقافة استولى الاتحاد الأوروبي على القصرين واشتراهما بثمن بخس دراهم معدودات أي بحوالي 500 ألف أورو. وتدخلت قبلها عندما حاولت محافظة دمشق استعماله كملهى ليلي. وعندما طلبت مني السلطات السورية تفويضا من قبل السلطات الجزائرية قلت لهم أنا سفير الجزائر ومفوض لأمضي معكم اتفاقية سلام ومفوض لأعلن عليكم الحرب. خلاصة القول أن الجزائريين في بلاد الشام قاموا بأدوار كبيرة جدا شاركوا بقوة في مقاومة الاستعمار وبادروا بإعلان الحرب ضد فرنسا وضد اليهود. وكتائب عز الدين القسام كان فيها جزائريون بادروا بالعلم ولا تزال أساميهم منقوشة على الجدران وتسمى بهم الشوارع.
هل لديكم فكرة عدد الجزائريين هناك الآن؟
من الصعب تقديم إحصائيات دقيقة عن عدد الجزائريين في بلاد الشام، لأنهم اندمجوا في المجتمع السوري وتبنوا ثقافته كليا. وبعضهم اعتلى سدة دواليب الدولة: فمأكلهم سوري ومنامهم سوري ورقصهم سوري... خلال الاستعمار الفرنسي لسوريا كانوا يحملون الجنسية الفرنسية وعند الاستقلال كان منهم من أراد العودة إلى الجنسية الجزائرية، غير أن الدولة الجزائرية آنذاك لم تكن مستعدة إداريا لمنحهم الجنسية الجزائرية فبقوا سوريين وهناك منهم من يحمل البطاقات الفلسطينية.
وهناك منهم من لا يزال يتحدث الأمازيغية؟
الكثير منهم بل كلهم يتحدثون الأمازيغية وحتى الذين هاجروا في القرن الثاني عشر كلهم يتحدثون الأمازيغية التي لم تخالطها لا كلمات عربية ولا كلمات فرنسية. وهم منتشرون في المدن والقرى وكثير منهم 'مختارو' القرى أي شيوخ البلديات كما يقال. وهناك الكثير منهم جاء إلى الجزائر من أجل استكشاف المجتمع الجزائري لكنهم وجدوا فروقا كثيرة بينهم وبين الشعب الجزائري. فنحن لا ندري أننتمي إلى البحر المتوسط أم عرب أم إفريقيين. عندهم حنين للبلد ولكن ليست لديهم القدرة على التأقلم. هناك من رجع بالفعل ولكن لا يمثلون إلا أقلية. في منطقة جبلي مثلا الحياة الاجتماعية والتضاريس توحي لك أنك في منطقة جرجرة وهناك قمنا بتصوير مسلسل 'عذراء الجبل' حول البطلة فاطمة نسومر.
بصفتك سفيرا سابقا بدمشق أكيد أنك أبقيت على اتصالك بالأوساط السياسية والفكرية والاجتماعية هناك ما طبيعة الوضع في سوريا على ضوء الأخبار التي تصلك من هناك؟
من الصعب أن تجد سوريا يتحدث بصراحة عما يحدث في البلد. ربما بسبب الخوف أو ربما عدم الرغبة في الخوض مع أجنبي عن أمورهم. سوريا منطقة متشعبة وفيها تيارات عديدة ومركز مصالح متعددة فإسرائيل جبهة متاخمة لإسرائيل والعراق وإيران من جهة وتركيا والمملكة الهاشمية من جهة أخرى بالإضافة إلى لبنان وكل البلدان المجاورة لها علاقات مع إسرائيل. كيف بين عشية وضحاها تأزم الوضع وتفاقم؟ هل فيه أيادي مخفية من إسرائيل تخدم المشاريع الأمريكية؟ أخشى أن أقع في المغالطة. أعرف أن النظام ديكتاتوري وقامع للحريات ككل الأنظمة العربية ومع ذلك فهو مجبور على التغيير. خاب أملي تجاه بشار الأسد. كان الأحسن أن يبادر ويسبق الأحداث ويخرج بخرجة وجيهة فهو شاب ومثقف بالرغم من فساد بطانته. سوريا الآن معرضة للانهيار كدولة فهذا هو المطلوب من طرف أمريكا وأوربا لكن هل هذا هو الحل؟ وهل هناك أمور أخرى وراء الستار؟ الأنجع أن تكون المعارضة في الداخل وليس من العواصم الغربية أو من البلدان المجاورة.
ما رأيكم في الموقف الجزائري من الأزمة السورية؟
موقف محتشم جدا، لا أدري إن كان تكتيكيا. الظروف تغيرت كثيرا عما كانت عليه في السبعينيات. وقد روجنا لفكرة أن الجزائر كانت وحدها في التسعينيات وهذه مغالطة لأن السلطة في ذلك الوقت هي التي روجت لهذه الفكرة. قال لي كبار المسؤولين العرب إنهم سمعوا المسؤولين الجزائريين يقولون هذه الأزمة 'بيناتنا' وكل محاولات التدخل من أجل إخماد نار الفتنة في الجزائر جوبهت بالرفض الشديد. ووصل ببعضها إلى حد الإدانة الشديدة مثلما حدث لوزير الخارجية الليبي الأسبق بوجمعة الفزاني والشيخ زايد بن سلطان رحمه الله الذي اتصل بالرئيس زروال وعرض عليه مساعدة الإمارات للخروج من الأزمة، ولكن الرئيس آنذاك رفض ذلك. ثم أن الديبلوماسية تحتاج إلى رجال وليس موظفين متقوقعين على أنفسهم، ولهذا لا شيء يرجى من الديبلوماسية الجزائرية تجاه القضايا الراهنة ولا من أجل جلب الاستثمارات وإقامة علاقات متميزة مع البلدان.
تعود صراعات حزب جبهة التحرير الوطني إلى السطح وأنت ناديت في ما ممضى بإعادة تأسيسها أو وضعها في المتحف إلى أي الاتجاهين تميل اليوم؟
جبهة التحرير الوطني تحتاج إلى إصلاحات عريضة وطويلة وهذا لا يساعد من هم على رأسه اليوم ولهذا لا بد من وضعها في المتحف رفقة الأشياء الثمينة. جاءني مناضلون من عدة مناطق من الوطن وطلبوا مني تحيين حزب جبهة التحرير الوطني وتجديده ولكني رفضت وقلت إنه من الأجدر والأحسن إنشاء حزب جديد قوي بتسمية جديدة لا بأس أن يستمد مرجعيته من نضالات جبهة التحرير الوطني، كفى من إقحام هذا العنوان في الصراعات السياسية الحالية.
هل هناك ما يدعو للتفاؤل من الانتخابات التشريعية المقبلة؟
أنا أتمنى وأرجو أن تكون هذه الانتخابات مصيرية وهذا لصالح الجزائر كلها كفانا صعوبات ومعاناة واستهتار كبير إلا أن هذا التمني والترجي يذهب في مهب الرياح إذا امعنا في الناس الذين يحضرون هذه الانتخابات. لا نستطيع أن نأتي بالجديد ونحن نعمل بالقديم.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 16/04/2012
مضاف من طرف : infoalgerie
المصدر : eldjazaironline.net