الجزائر

المهمة كانت صعبة، لكن إرادة الرجال كانت أقوى



المهمة كانت صعبة، لكن إرادة الرجال كانت أقوى
كان اللقاء معه في بيته بأعالي العاصمة، متميزا، ليس فقط بكم المعلومات والوثائق التي اطلعنا عليها، والتي عادت بنا إلى جزء هام من تاريخ الثورة التحريرية المظفرة، بل لأن الجانب الانساني كان حاضرا بقوة، لدى مضيفنا الذي ذرف الدمع أحيانا عندما تذكر الشهداء، وروى لنا بعض الحكايات الطريفة أحيانا أخرى. ف"الحياة مزيج من كل شيء"، كما يقال.كانت الذكريات صعبة بالنسبة لرجل قضى شبابه يخدم بلده بعيدا عن عائلته، ولم تكن معاناة زوجته "الحاجة" أقل خلال السنوات الطويلة التي قضاها زوجها خارج الحدود الجزائرية.المجاهد عبد المجيد بوزبيد، أحد الفاعلين المهمين في مجال التسليح والتموين إبان ثورة التحرير الوطني في المنطقة الشرقية، يقول في لقاء مع ‘'المساء : ‘'لم تكن المهمة سهلة أبدا ، لكنها في نفس الوقت لم تكن "مستحيلة"، لأن وراءها رجال فضلوا التضحية بكل غال من أجل بلدهم.ولأن السلاح عصب الحرب، فإن توفيره كان من أصعب المهام، لكن المهمة أنجزت بكل نجاح، رغم كل العراقيل والأخطار، ورغم الموت والدمار، لأن الإيمان كان قويا بالجزائر الحرة المستقلة.منذ الوهلة الأولى، وبمجرد ما طرحنا إشكالية الموضوع الذي سنتطرق إليه، والمتعلق بتسليح الثورة، لم يتردد المجاهد بوزبيد في القول؛ "إنه موضوع طويل وثقيل، لأن الأمور لم تتم صدفة". فبداية التفكير في جمع الأسلحة كانت قبل اندلاع الثورة بسنوات، وبالضبط تزامنا وإنشاء المنظمة الخاصة أو السرية.ويوضح محدثنا؛ "أول من فكر في التسليح هو محمد بلوزداد سنة 1948... كان شابا حيويا وثوريا وملتزما بشدة، لكنه مع الأسف توفي سريعا لأسباب صحية، ولم يواصل مهمته التي تولاها بعده حسين آيت أحمد، ومن بعده أحمد بن بلة".وإذا كان محمد بلوزداد يشرف على عملية التسليح، فإن من كان مكلفا بجلبه هو امحمد يوسفي- يشرح عبد المجيد بوزبيد- "وهو مناضل قديم في الثورة وانتقل في فترة الثورة إلى أوروبا لاقتناء الأسلحة رفقة الطيب بولحروف في روما وفي ألمانيا، بمساعدة فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا التي كانت توفر كل الامكانيات من أجل الحصول على أسلحة".لكن قبل ذلك، كان يوسفي مكلفا من طرف المجموعة التي كونها بلوزداد باقتناء أسلحة، تزامنا مع إنشاء المنظمة الخاصة التي كان السيد بوزبيد عضوا فيها.ويجب العودة إلى سنوات 1948 و1949 و1950، عند الحديث عن أولى عمليات التسليح بالنسبة للجزائريين، كما يشير إليه السيد بوزبيد قائل؛ "عمل محمد بلوزداد في البداية على استرجاع أسلحة من الصحراء الإسبانية (الصحراء الغربية حاليا)... كانوا يرسلون أشخاصا لاقتناء أسلحة من الجيش الإسباني الذي كان مكلفا حينها بتأمين هذه المنطقة، وتم ذلك ضمن عمل المنظمة الخاصة التي كان من بين أهدافها؛ التحول إلى العمل المسلح".ويقف محدثنا لحظات للحديث عن هذه الأخيرة التي أنشئت في 15 فيفري 1947، وانضم إليها سنة 1949، إذ يؤكد أنها كانت منظمة "صارمة" وتعتمد على التكوين والانضباط الصارم جدا... كان لابد أولا من أداء القسم، ثم تعلم تحية الجيش الوطني والالتزام خصوصا بالتمارين، لاسيما تلقين إطلاق النار، لذا كان لابد من وجود أسلحة حقيقية لتكوين أعضاء المنظمة، لاسيما في الجبال، و"كنا نقوم بالتمارين كل أسبوع أو أسبوعين، حسب الوضعية السياسية والظروف"، كما يشير إليه.وحسب صاحب كتاب "الامداد خلال حرب التحرير الوطني"، فإن الأمور كانت تسير بطريقة جيدة حينها، وكلف كل من محمد بوضياف ومصطفى بن بولعيد وبشير شيهاني بجمع الأسلحة التي تركتها القوات الألمانية والإيطالية مدفونة في الأراضي التونسية والليبية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.فبن بولعيد مثلا، استرجع الأسلحة التي تركها الألمان والإيطاليون على طول الحدود التونسية، واستطاع الحصول على 1500 قطعة سلاح خبأها في كهوف بجبال الأوراس، بعد أن نظفها وتأكد من صلاحيتها. وبين سنتي 1949 و1954، تم اقتناء كميات هامة من الأسلحة في ليبيا وتونس على يد مسؤولي المنظمة الخاصة، باعتبار أن البلدين ورثا مخزونات هامة من العتاد الحربي، تم التخلي عنها في الصحراء من طرف الألمان والإيطاليين بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية.وأضاف؛ "لم نتوقف أبدا عن استرجاع الأسلحة منذ أن بدأ بلوزداد العملية... وبإعلان ثورة أول نوفمبر، بدأ التوجه نحو الاستيلاء على الأسلحة الفرنسية، وكذا اقتناء أسلحة كانت تباع في أسواق ببعض الدواوير في الجزائر وفي أسواق بتونس، حيث انتشرت ظاهرة بيع الأسلحة".وبعد اندلاع الثورة، وتزامنا مع تكون أول تجمع للجزائريين داخل الأراضي التونسية سنة 1956، تم تكوين مجموعة قيادة الثورة الجزائرية وبدأ التفكير في اقتناء أسلحة من الخارج، "لكن كان لابد من تنظيم الأمور"، كما أشار إليه محدثنا الذي التحق بالجبل سنة 1956، لينقل بعدها للعلاج في مستشفى حبيب ثامر بتونس، بعد تعرضه لجروح وتمزق في الكوع بسبب إصابات من العدو الفرنسي، تحت إشراف البروفيسور هدان، وهو "مناضل كبير كانت لديه عيادة في قسنطينة، يداوي فيها المجاهدين ليلا، ولما تفطن له الفرنسيون، هرب إلى تونس، وكان يعالج كل الجزائريين المجروحين والمرضى".وبعد استعادته لعافيته، تم إرسال السيد بوزبيد إلى ليبيا مع أوعمران، حيث وجد تنظيما قائما بذاته وكان لعرار محمد الهادي مكلفا باسترجاع الأسلحة أو المساعدة في تمريرها، يقول مصدرنا، مضيفا بأن الجماعة في ليبيا كانت تبحث عن ميناء لجلب الأسلحة بعيدا عن الجزائر وفرنسا وحلفائها، وجلبها عبر قناة السويس.وتحدث السيد بوزبيد في هذا السياق، عن مساعدات من طرف "مصر عبد الناصر" التي أرسلت مراكب أسلحة للجزائريين، كما تحدث عن دعم الليبيين الكبير حينها في عهد الملك إدريس السنوسي، سواء من السلطات أو من الشعب الليبي، مذكرا في هذا الشأن بفتح مدرسة خاصة بالأيتام الجزائريين في هذا البلد الشقيق. فكان لابد ونحن نتحدث عن التسليح، من فتح بعض الأقواس للإشارة إلى مثل هذه الأعمال التضامنية التي تذكرنا بدعم إخوة لنا في بلدان أخرى، كما شدد عليه السيد بوزبيد، وهو يرينا بعض الصور التي يحتفظ بها ويحفظها بطريقة جيدة، والتي تصور السنوات التي عاشها في ليبيا. كيف لايحفظها وهي تشكل بالنسبة له أرشيفا هاما للذاكرة الوطنية وليس لذاكرته الشخصية فحسب.وبالعودة إلى اقتناء الأسلحة من الخارج، يشير المجاهد إلى عدد من الأسماء التي كان لها دور كبير في هذا المجال، منهم "مبروك بوداوود" الذي كان يرأس مجموعة لجمع الأموال في فرنسا بهدف اقتناء الأسلحة، و"حفيظ كرمان" الذي كلف بالمهمة في ألمانيا وبالضبط في فرانكفوت، والطيب بولحروف في إيطاليا، مع التشديد على دور الجالية الجزائرية الكبير في فرنسا التي كانت مصدرا هاما لتمويل هذه العمليات. واستعان هؤلاء بمحام ليشرف على عقود اقتناء الأسلحة في أوروبا، وساعدت بعض البلدان الأوروبية مثل بلغاريا ويوغسلافيا في تمريرها. مع العلم أنها أسلحة غير مستعملة لكنها غير جديدة، كما أوضح، إذ كانت من بقايا أسلحة ألمانيا النازية وكان لابد من التحقق من صلاحياتها. يضاف إليها بعض الهبات من دول عربية، على رأسها مصر، حيث كان يوجد أحمد بن بلة.وكلف المجاهد بوزبيد بمرافقة الشاحنات المحملة بالسلاح من الموانئ الليبية إلى الحدود مع تونس، لتعذر نقلها بحرا، نظرا للمخاطر الكبيرة التي تحيط بها. وهنا ركز كثيرا على مشقة المهمة، لاسيما أن الشاحنات كانت تسير ليلا لمسافات بعيدة، وبدون إشعال الأضواء. وكان محدثنا يسهر على مراقبة السائقين الذين كثيرا ماكان يغلبهم النعاس، فلم يكن الخطأ مسموحا مهما صغر.فمن مصر كانت تأتي الأسلحة عبر البحر نحو بن غازي، ثم إلى طرابلس ومن هناك إلى الحدود مع تونس، "كانت الأمور صعبة، لكن كان ذلك واجبنا"، كما قال."في تونس، كنا نتجنب أن ننزلها في ميناء العاصمة، ووجدنا ميناء صغيرا على بعد 200 كلم من العاصمة التونسية، كنا ننزل الأسلحة ونأخذها في قوارب صغيرة إلى الميناء، ولإدخالها إلى الجزائر كنا نستخدم كل الوسائل، منها إخفاؤها في صناديق السمك التي كان يقتنيها الجزائريون مقابل الخضر والفواكه من التونسيين...كنا نؤمن آلاف الأطنان بين مؤونة وأسلحة إلى غاية عام 1960، عند وضع خطي موريس وشال... 7000 جزائري استشهدوا لأنهم أرادوا تمرير الأسلحة"، ذكريات صعبة أنزلت دموع المجاهد بوزبيد.وبين عامي 1960 و1962، تم استدعاؤه إلى تونس، حيث تغيرت الأمور بفعل تواجد 200 ألف لاجئ جزائري وكذا الجيش الجزائري في الحدود التونسية، الذين كان لابد من الاهتمام بهم، فتم إنشاء مديرية التسليح والتموين، وكلف محدثنا بمديرية اللوجستيك في الشرق، مع العلم أن المسؤول العام للوجستيك غربا وشرقا كان المجاهد عمار بن عودة.وتم استخدام مخزن قديم كان يستعمله الفرنسيون في الحدود التونسية، حيث كان المجاهدون يخبئون الشاحنات العسكرية، حيث كانت توجد ورشات صيانة وخياطة ...الخ، كما شكل فريق خاص بتموين الجيش في الحدود.وسمحت الوثائق والصور التي اطلعنا عليها مضيفنا، بإدراك مدى أهمية العمل الذي تم في الحدود التونسية، من أجل ضمان التموين للجزائريين، لاسيما جيش الحدود، حيث تعد الكميات المؤمنة بعشرات الأطنان، كما تضم كل المواد بدون استثناء؛ من المواد الغذائية إلى الألبسة، مرورا بكل أنواع الأجهزة. دون الحديث عن كميات السلاح والعتاد الحربي.وعن دور وزارة التسليح والاتصالات العامة "المالغ" في عمليات التسليح، أشار محدثنا إلى أن الدور الذي لعبته كان في أواخر سنوات الثورة، لأنها شكلت في عام 1960، أي عامين فقط قبل الاستقلال وبعد سنتين من الإعلان عن الحكومة الجزائرية المؤقتة، في وقت كان أغلب المسؤولين الأوائل عن إنشاء مصالح الإمداد والتسليح، إما في السجون الفرنسية أو ضمن هياكل الحكومة المؤقتة.هذه الأخيرة، كان لإعلانها الفضل في تجاوز بعض عقبات التسلح، لاسيما بعد اعتراف أكثر من 30 بلدا بها، وهو ما سهل إبرام عقود اقتناء الأسلحة مع دول بذاتها، وليس مع وسطاء أو شركات، وهو مامكن من الحفاظ على سرية الصفقات والتسليمات وكذا تنويع طبيعة الأسلحة، بالنظر إلى احتياجات الوحدات العسكرية.المجاهد في سطورولد المجاهد عبد المجيد بوزبيد سنة 1931 بعنابة، وهو متزوج وأب لستة أطفال. زاول دراساته الثانوية بمركز التكوين التقني بعنابة، وانضم إلى حزب الشعب الجزائري سنة 1947 ثم إلى حركة انتصار الحريات الديمقراطية في عام 1948 والتحق بصفوف المنظمة الخاصة في سنة 1949.سجن بعنابة سنة 1950 اثر تفكيك المنظمة الخاصة، وحكم عليه بالسجن لمدة عام في سنة 1951، بالاضافة إلى 05 سنوات من حظر الحقوق المدنية، وفي نفس السنة نقل إجباريا إلى ثكنة الكدية بقسنطينة لمدة 03 أشهر قبل إطلاق سراحه. وتم تعذيبها بطرق بشعة منها الحوض ولاجيجان، وهي جهاز كهربائي للتعذيب.التحق بجبهة التحرير الوطني في سنة 1954 بعنابة وفي عام 1956 أصبح عضوا في جيش التحرير الوطني بالمنطقة الثانية بالولاية الثانية، وأصيب بجروح أثناء عدة عمليات عسكرية لينقل إلى تونس للعلاج.في عام 1957 كلف بمهام أمانة خدمة إمداد جيش التحرير في طرابلس ثم أصبح مسؤولا للامداد ببن غازي وفي سنة 1959 كلف بمهام رئيس مركز التسليح والتموين بتونس وفي سنة 1960 تكفل بمسؤولية التموين العام بمديرية الامداد الشرقية إلى غاية أوت 1962.بعد الاستقلال في سنة 1963 وإلى غاية عام 1964 تقلد مهام إطار في مديرية الأمن الوطني، وبين سنتي 1964 و1967 تقلد منصب إطار بوزارة الخارجية ليستدعي مرة ثانية لتقلد منصب نائب مدير للادارة العامة بالمديرية العامة للأمن الوطني التي تقلد فيها كذلك منصب مدير للمفتشية والشؤون العامة في الفترة بين 1971 إلى 1987.ومن سنة 1987 إلى غاية جوان 1990 عين مديرا عاما للأمن الوطني، بعدها وإلى غاية سنة 1992 عين سفيرا للجزائر لدى مالي، تقلد عدة أوسمة ونشط محاضرات وندوات.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)