سراب التسوية المبكرة.. الخديعة و"الغربال" السويسري
"استسلام".. أم استقلال؟! "سوء تفاهم" في مولان
تحتفل الجزائر، اليوم، بالذكرى الخمسين لعيد النصر، ذكرى نهاية حرب التحرير بوقف القتال في منتصف نهار 19 مارس 1962، الخطو ة الأولى في تطبيق اتفاقيات إيفيان الموقعة مساء اليوم الماضي من طرف بلقاسم كريم عن الجانب الجزائري، وثلاثة وزراء عن الجانب الفرنسي هم: لويس جوكس، جان دونبروي وروبار بيرون. بهذه المناسبة ارتأينا أن نقف عند أهم المحطات المؤدية إلى هذا الحدث السعيد من بيان فاتح نوفمبر ـ باعتباره نداء سلم ـ إلى القاهرة وبلغراد وروما ثم "مولان"، إلى "لوسارن" فإيفيان الأولى، و"لوغران"، وانتهاء "بلي روس" وإيفيان الثانية. تحمل هذه المحطات عناوين مثيرة تعكس شراسة الحرب وحذر المتحاربين وصعوبة التوصل إلى اتفاق.. مثل "نداء السلم"، "سراب التسوية السريعة"، "خديعة الفائزة"، "سوء تفاهم مولان"، إلى الإستعانة بـ"الغربال السويسري" وتذليل مصاعب الطريق إلى محطة إيفيان الثانية، والتتويج بالنصر المبين: نصر استعادة الجزائر السيدة، في ظل وحدتها الوطنية وسلامة وحدتها الترابية، حسب مطالب الثوار في البيان رقم واحد لجبهة التحرير الوطنية التاريخية.
بيان فاتح نوفمبر.. نداء سلم
سراب التسوية المبكرة
كان بيان فاتح نوفمبر 1954 نداء سلم وإعلان حرب في نفس الوقت، لأنه تضمن خطوطا عريضة لتسوية القضية الجزائرية عن طريق التفاوض، وعبّر البيان عن مطلب الإستقلال بأسلوب لا يخلو من الدبلوماسيية، من خلال تحديد ثلاثة أسس للتفاوض المأمول هي:
1ـ اعتراف رسمي وعلني بالجنسية الجزائرية
2ـ التفاوض مع ممثلين مفوضين من الشعب، على أساس الإعتراف بسيادة الجزائر ضمن وحدتها الوطنية والترابية.
3ـ تحديد مستقبل العلاقات بين الجزائر وفرنسا، بموجب "اتفاق قائم على المساواة والإحترام المتبادل"..
وفي نفس السياق عبر البيان عن حسن نوايا جبهة التحرير الوطني من خلال التعهد بـ:
ـ احترام المصالح الفرنسية الثقافية والإقتصادية المكتسبة بصفة شرعية..
ـ احترام الحريات الفردية والجماعية للأقلية الأوروبية، "وتمكينها من حرية الإختيار بين الإحتفاظ بالجنسية الفرنسية أواختيار الجنسية الجزائرية"..
هذا الطرح التفاوضي المتكامل يعكس جدية وصدق ومسؤولية القيادة الأولى لجبهة التحرير الوطني،في تعلقها بالتسوية السلمية منذ الوهلة الأولى، وحرصها على تقليص حجم الخسائر البشرية والمادية جراء الحرب المعلنة..
غير أن الجانب الفرنسي رفض هذا النداء بصلف، معلنا أن الجواب الوحيد على عمليات ليلة فاتح نوفمبر هو الحرب الشاملة بكل ضرواتها، على أساس "أن الجزائر جزء لا يتجزأ من فرنسا".
هذا التشدد من السلطات الفرنسية ـ ممثلة في رئيس الجمهورية "روني كوتي" ورئيس مجلس الوزراء بيار منداس فرانس ـ لم يمنع بعض الإرادات الحسنة من محاولة توقيف دوامة الحرب في الأشهر الأولى، قبل أن تستشري وتتجاوز حد القطيعة النهائية.
بدأت هذه المحاولة عمليا في ديسمبر 1955، عبر قناة "منداس فرانس" الذي كان قدر ترك مكانه في مستهل السنة إلى "أدغار فور".. فقد استقبل يومئذ صالح الوانشي وأحمد طالب الإبراهيمي من قيادة اتحادية الجبهة بفرنسا، بفضل وساطة بعض الأحرار الخيرين أمثال الأستاذ "مندوز" وكاتبين الصحفيين "بارا" و "بوردي" من أسبوعية "فرانس أوبسرفاتور"، لكن هذه المحاولة لم تفض إلى شيء يذكر، لأن الوزير الأول الجديد "ڤي مولي" اختار في نهاية الأمر طريق الحرب، كما أكد ذلك ممثله بالجزائر الوزير المقيم "لاكوست" الذي صرح غداة تعيينه في فبراير 1956 أنه "قدم إلى الجزائر ليحارب وينتصر"..
وبفضل مساعي الرئيس المصري جمال عبد الناصر وحركة عدم الإنحياز الوليدة، لاسيما بعد اللقاء الثلاثي في "بريوني" ـ الذي جمع الرئيس اليوغوسلافي تيتو بكل من ناصر ونهرو - قبل الجانب الفرنسي إيفاد مبعوثين للإتصال بممثلي جبهة التحرير في الخارج سرا، دون أن تكون لذلك أي صيغة رسمية.
دشن هذه الإتصالات بالقاهرة في أبريل 1956 محمد خيضر والسيد "بيغارا" أحد مساعي "ڤي مولي" في الحزب الإشتراكي، وكان هدفها من كلا الطرفين جس النبض لا غير ومعرفة نوايا الخصم مباشرة.. وخلال الأسبوع الأول من سبتمبر من نفس السنة عرف الجانب الجزائري في لقاء بروما المقترح الفرنسي لحل المشكلة الجزائرية: منح استقلال ذاتي موسع في ميدان التسيير، أي استبعاد موضوع الإستقلال والسيادة الوطنية منذ الوهلة الأولى.
وفي 22 من نفس الشهر نقل الدكتور الأمين الدباغين رفقة خيضر إلى المبعوث الفرنسي "أربو" في بلغراد رفض جبهة التحرير للمقترح آنف الذكر، مؤكدا بالمناسبة التمسك بالإستقلال كشرط مسبق لأي تفاوض محتمل.
وكان عبان ورفاقه في الجزائر العاصمة قد توصلوا، في يوليو الماضي، إلى خلاصة "أن الفرنسيين ليسوا جاهزين للتفاوض الجدي حاليا". وقد توصل خيضر في نفس الفترة إلى النتيجة ذاتها، وبناء على ذلك أصبح الرأي الغالب أن الإتصالات مع الفرنسيين يمكن أن تؤثر سلبيا على بعض أصدقاء القضية الجزائرية، لأنها في حقيقتها مجرد مناورة من جولي لجبر خاطر دعاة الحل السلمي في حزبه.
وبعد تمام الشهر من لقاء بلغراد، جاءت حادثة اختطاف طائرة أربعة من أعضاء الوفد الخارجي في طريقهم من الرباط إلى تونس، لتبدد نهائيا سراب التسوية السريعة للقضية الجزائرية، وتغلق ملف التفاوض بذلك طيلة نحو أربع سنوات..
"استسلام".. أم استقلال؟!
"سوء تفاهم" في مولان
كانت محطة "مولان" ابتداء من 25 يونيو 1960 محاولة أولى لمد جسور الحوار الجزائري-الفرنسي المباشر، بعد نسف هذه الجسور في عملية القرصنة الشهيرة التي أدت إلى اعتقال أربعة من أعضاء الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني مساء 22 أكتوبر 1956.
وكانت هذه المحاولة محكوما عليها بالفشل، لاستمرار رفض الجانب الفرنسي تمكين الشعب الجزائري من حقه في تقرير مصيره بكل حرية، كان الرئيس الفرنسي قد أعلن في 16 سبتمبر 1956 عن قبول الإحتكام مبدئيا لاختيار تقرير المصير، لكن قيد ذلك بـ:
- اشتراط مرور 4 سنوات على الأقل بهدف تمكين الجيش الفرنسي من تحقيق "التهدئة الشاملة"، أي بعد وقف القتال دون قيد أو شرط، و"إعادة السكاكين إلى أغمادها" حسب عبارة دوغول الشهيرة.
ـ السعي لفرض قراءته الخاصة لتقرير المصير الذي ينبغي أن يكون لصالح اختيار "الشراكة" بدل الإستقلال الذي يعتبره "انفصالا"..
ـ الرهان على من يسميهم "المعتدلين" في جبهة التحرير لقبول اختيار "الشراكة" وحمل "المتشددين" فيها على قبوله!
ـ الترويج عبر بعض "الوسطاء المتطوعين" لفكرة استعداد دوغول للتفاوض الجدي مع جبهة التحرير، ومحاولة تغليط حاشية الرئيس فرحات عباس بذلك.
- سعي الجانب الفرنسي إلى تجسيد اختيار "الشراكة" عبر مشروع "الجزائر الجزائرية"، وهيئاتها المنتخبة والتنفيذية. وفي منظور الجنرال دوغول، أن دور القاطرة في هذا المشروع يعود إلى الأقلية الفرنسية بكل استحقاق!. في 14 يونيو 1960 توجه الرئيس الفرنسي في خطاب له إلى الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية قائلا:"نحن في انتظار ممثلي التمرد، كي نضع حدا مشرفا للمعارك المتواصلة".. أي "التباحث في وقف القتال ومصير السلاح والمقاتلين تحديدا"..
وكان قد استقبل على هذا الأساس في العاشر من نفس الشهر، وفدا عن الولاية الرابعة بقيادة سي صالح (محمد زعموم).. علما أن دوغول كان مايزال يحاول التوصل إلى وقف القتال "مع المقاتلين في الميدان" حسب تعبيره.
وبعد ستة أيام ردت الحكومة المؤقتة على دعوة دوغول بتعيين المحامين أحمد بومنجل ومحمد الصديق بن يحي، للسفر إلى باريس في ظل سوء تفاهم كبير:
ـ اعتقاد الحكومة المؤقتة أن الرئيس الفرنسي بات جاهزا للتفاوض على أساس تقرير المصير الذي لا يمكن في نظرها أن ينتهي بغير الإستقلال.
ـ رهان دوغول على "اعتدال" فرحات عباس، وإمكانية حمل قيادة الثورة على قبول اختيار "الشراكة" الذي يتبناه!.
انتدبت الحكومة الفرنسية لذلك موظفا ساميا مكلفا بالشؤون الجزائرية هو السيد روجي موريس، بمساعدة الجنرال ڤاستين (من الخيالة)، والعقيد ماتون من ديوان الوزير الأول بوبري. وتم استقبال المبعوثين في إطار السرية التامة بإقامة تابعة لعمالة مولان.. وفوجئا منذ الوهلة الأولى بمنعهما من الإتصال بالصحافة وبالوزراء المساجين ـ المختطفين في أكتوبر 1956 - لا بالهاتف ولا عن طريق الوسطاء، وعندما احتج بومنجل على هذه المعالمة الغريبة، لم يخف الوفد الفرنسي اندهاشه لذلك!
في مثل هذه الظروف، ما لبث سوء التفاهم أن تحول إلى حوار طرشان، استغرق خمسة أيام كانت ثقيلة جدا على الطرفين.. وفي 29 يونيو فضل الطرفان وضع حد لهذه "المونولوج المزدوج".. ليعود بومنجل وبن يحيى سالمين! بعد أن وضعت دعاية نظام الإحتلال مهمتهما في إطار مسعى استسلام من الداخل (مهمة سي صالح) والخارج!
وكان تقييم الحكومة المؤقتة للقاء "مولان" كما يلي:
1ـ أن الوفد الجزائري وجد نفسه أمام الرفض التام لأي تفاوض.
2ـ أن الجانب الفرنسي كان يتصور أن الوفد الجزائري كان يحمل القبول بشروطه التي تجعل من التفاوض مجرد وهم..
3ـ أن الإختلاف بين الطرفين كان أعمق من توقعات الحكومة المؤقتة.
4ـ أن اللقاء مع ذلك لم يكن يخلو من إيجابيات، لأنه مكن الجانب الجزائري من معرفة نوايا الجنرال دوغول الحقيقية، بعيدا عن "الوساطات" الواهمة والموهمة! فضلا عن التأكد من بعض الحقائق مثل:
ـ تولي الجنرال شخصيا ملف القضية الجزائرية.
ـ عدم استعداده لمقابلة الرئيس عباس قبل وقف القتال.
ويؤكد الرئيس دوغول، في مذاكرته، أنه كان يتوقع فشل لقاء "مولان"، لأن وفد الحكومة المؤقتة جاء بمهمة ترتيب لقاء قمة بينه وبين عباس، لكن اللقاء برأيه حقق مع ذلك نتائج هامة: " فلأول مرة طلب وفد من الثوار استقباله بفرنسا، ويتحدث طويلا مع ممثلين عن الحكومة الفرنسية".
ولعل من أهم إيجابيات اللقاء أنه بدد كثيرا من الأوهام التي كانت تغذي سوء التفاهم، وتلغم بذلك ـ بقصد أو بدون قصد ـ طريق التفاوض الجدي.
فشل مولان جعل الرئيس الفرنسي يصاب بخيبة، يصفها الوزير الأول دوبري بـ"الإنهيار المعنوي" الذي جعله يتساءل: "لا يمكن تحقيق أفضل الحلول لفرنسا مع الخصم نفسه؟!"، أي جبهة التحرير. وفي أوت 1960 كشف فرحات عباس، في تقرير إلى الحكومة المؤقتة، أن معنوياته بعد مولان لم تكن أحسن من معنويات دوغول! فقد كتب بمرارة:
ـ أن الحكومة المؤقتة أصبحت ـ لانقطاعها عن الداخل ـ تستحق أكثر فأكثر صفة "المنظمة الخارجية للتمرد" التي يطلقها عليها العدو الفرنسي!
ـ أن الفرنسيين بعد "مولان" أصبحوا يريدون استسلامنا بكل وضوح، وأن القضية الجزائرية أصبحت تطرح في إطار ميزان سياسة فرنسا باتجاه هدفنا، ما لم يشهد هذا الميزان تغييرا جوهريا لصالحنا".
ولحسن الحظ أن مثل هذه الفقرات من تقرير رئيس الحكومة المؤقتة تعبر عن حالة نفسية أكثر من أي شيء آخر، لأن ميزان القوة تغير فعلا سنة 1960 تغييرا حاسما لصالح الثورة الجزائرية على جميع الأصعدة.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 19/03/2012
مضاف من طرف : aladhimi
صاحب المقال : محمد عباس
المصدر : الفجر 2012.03.18