الجزائر - Patrimoine Architectural et Immobilier


إن البحث في موضوع السكن والمساكن بمدينة تلمسان في العهد الزياني لا يختلف عن البحث في الملامح العمرانية لأي حاضرة من حواضر المغرب الإسلامي. فهي تشبه منازل وقصور فاس وتونس ومدن الأندلس، وتخضع لضوابط ومعالم المدينة الإسلامية و تشترك معها في العديد من الأمور مثل التخطيط والتصميم والزخرفة. غير أن الباحث في خطط المدينة وتطورها العمراني يعاني من قلة الحفريات والتنقيب الميداني بتلمسان، بل من انعدام الوثائق التاريخية والدراسات الأثرية والمعمارية.

إلا أن بعض النتف والإشارات الواردة في بعض المصادر المتعلقة بتاريخ تلمسان وحضارتها، فضلا عن كتب الخطط الخاصة بمدن مغربية متشابهة تحكمها ضوابط مشتركة، تمكننا من الوقوف على بعض الملامح العمرانية للمنزل التلمساني في العهد الزياني.

ويبدو أن الشيء، الذي تميزت به مدينة تلمسان في العهد الزياني كغيرها من الحواضر الكبيرة في بلاد المغرب، هو عدم وجود أحياء سكنية خاصة بالفقراء 1. فقد كان نمط المنزل أو القصر مرتبط بالمستوى الاجتماعي والمالي للأسرة التلمسانية، ويتحكم في درجة أناقته وحسن بنائه، فالطبقة الميسورة تبنى دورها من عدة طوابق، وبمواد بناء رفيعة، بينما الأسرة الفقيرة تكتفي بالطابق الأرضي فقط، وبمواد بناء وأدوات تجميل بسيطة 2.

اتخذ المنزل التلمساني شكلا مربعا في غالب الأحيان، لا يكتسي أي مظهر جمالي من الخارج 3، ليس له نوافذ مفتوحة على الشارع، وإن وجدت فهي نوافذ صغيرة لا تعرض الحريم للرؤية من الخارج 4. لهذا كانت نوافذ الغرف تطل على صحن المنزل وفنائه في الداخل، ويكون باب المنزل مصنوعا من الخشب المتين تزينه مسامير حديدية، ومقرعة يقرع بها الزائر الباب قبل الدخول.

أما من الداخل فإن المنزل يحتوي على كثير من مظاهر الزينة والزخرفة والراحة، ويشتمل على رواق أو ممر ضيق يربط الباب بالفناء، الذي يتوسط المنزل. وكذلك أبواب الغرف، فإنها تفتح جميعها على الفناء كالنوافذ، ليدخل إليها الهواء والضوء. ويعتبر الفناء الذي يطلق عليه أيضا الأسطوان 5، المكان مفضل لجلوس العائلة في فصل الصيف، لهوائها المعتدل وتوسطها المنزل.

وتوجد ممرات تصل الغرف ببعضها البعض، مغطاة بالخشب الرفيع المنقوش، خاصة ببيوت الطبقة الميسورة 6. وتشتمل المنازل على أعمدة كثيرة جميلة، يرتكز عليها السقف وينتهي أعلاها بأقواس فيها عدد من المقرنصات، مما يدل على أن أصحابها من ذوي المال، وفروا لها أدوات البناء الرفيعة التي تليق بمقامهم الاجتماعي والمادي. وكانت الجدران في أسفل منازل الأثرياء تكسى بالزليج الملون، وأرضها مبلطة بالرخام؛ ويزين وسط المنزل نافورة أنيقة يخرج منها الماء، ثم يجري إلى الصهريج الذي يأتي إليه الماء من الخارج بقنوات مخصصة لذلك. وتطلى جدران المنازل عادة بالطين المخلوط بالجير من الخارج ومن الداخل، وكانت سقوفها واطئة في غالب الأحيان غير مرتفعة .

وإذا كان المنزل يشتمل على حديقة، فإن النوافذ تطل عليها في بعضها، ويكون المطبخ والدرج والمحلات الخاصة في زاوية المنزل، في أماكن دائما ما تكون مغلقة، يأتيها الضوء والهواء عن طريق فتحات ضيقة وصغيرة 7.

ومما يشير إلى تطور المجتمع التلمساني وتمدنه، احتواء المنازل والقصور على مراحيض وقنوات لصرف المياه إلى خارج المسكن والمدينة 8 ، وهذه ظاهرة عمرانية تكاد تنفرد بها تلمسان عن غيرها من مدن المغرب الإسلامي.

يتميز كذلك المنزل التلمساني لأصحاب الجاه والمال في العصر الوسيط ، باحتوائه على غرفة واسعة مزين سقفها بالخشب المنقوش ؛ وتحيط بسطحه جدران عالية ينشر فيها الغسيل وتجفف فيه الفواكه واللحوم 9. وجرت العادة أن تبنى غرفة في أعلى الدار تدعى العلية، لتكون منزها للنساء ومكانا مفضلا لاستراحتهن، ويمكن استعمالها لمآرب أخرى 10. وكانت سقوف منازل الطبقة الميسورة والمتوسطة تغطى بالقرميد الأحمر أو الملون بالأخضر. وكان صاحب المنزل يحرص كل الحرص على أن تكون جدران منزله مستوية ومبنية بناءا جيدا، وإن قام البناء بغشه يشتكيه للمحاسب أو القاضي.

أما الأسرة الفقيرة ، فكان منزلها عبارة عن بيت بسيط لا يزيد عن الدور الأرضي يبنى بأدوات بسيطة، شكله ومظهره أقل بكثير من بيوت الطبقة الميسورة من حيث الجمال والمواد المستعملة في البناء والأثاث، ولعلها كانت تبنى بالحجر والطوب وتغطى بالقش والطين وبأعشاب النباتات التي تتحمل أمطار الشتاء الغزيرة وثلوجها وبردها القارس، وكانت تنتشر عادة بالقرب من الأسوار والأبواب.

كانت المنازل في أحياء ودروب تلمسان قريبة من بعضها البعض، خاصة في القصبة والأحياء الشعبية الآهلة بالناس، ولا تكون ملصقة بأسوار المدينة حتى تسمح بتحرك الجند، وتنقل السكان براحة 11. ويتميز أهل تلمسان بحرصهم على غرس الأشجار المثمرة والزهور في وسط المنازل وحولها، ولا سيما منها شجر النارنج والكروم والتفاح والأجاص، كما هو في بيت ابن مرزوق الكائن بدرب مرسى الطلبة 12.

وأما المنازل الخارجة عن أسوار المدينة، فكانت تبعد عن بعضها البعض ولها مساحات واسعة، مزودة بإسطبلات للخيل و البقر والمواشي، منفصلة عن المساكن وهو ما يجعلها عرضه للصوص. فقد كان الصبيان يسرقون ما كانت تحتويه الإسطبلات من سروج ولجام وغيره، ثم يبيعونها في درب اليهود أو في سوق منشار الجلد بتلمسان 13.

وقد تسبب البناء العالي للمنازل في المدينة في مشاكل اجتماعية بين الجيران، لأن المنازل ذات الطوابق المتعددة كانت تشرف على المنازل الأخرى الأقل علوا منها. وكان يكفي في العهد الزياني تقديم شكوى من طرف الجيران المتضررين من مثل هذا النوع من البناء إلى القاضي ليتم هدمه، حفاظا على التقاليد الإسلامية وحرمة الجار وراحته وكرامته 14.

ولم يسلم من هذه القضايا حتى السلاطين والأمراء، مثل ما حدث لأبي تاشفين الأول عندما بنى قصرا وجعل له 'علية' تطل على دار ابن مرزوق ومن يجاوره في الدرب، فاحتجوا على السلطان، واشتكوا للقاضي وطالبوه بهدمها 15.

وتذكر بعض المصادر أن الرخاء الاقتصادي والتطور الحضاري جعل أهل تلمسان يتميزون في المسكن والملبس 16، و'استجادة الآنية والماعون، واتخاذ الخدم والمركب' حسب تعبير ابن خلدون 17. ولكن مع الأسف لم يبق من هذه المنازل التلمسانية إلا بعض آثارها ، ومن بين هذه المنازل: الدار الكبيرة و دار الانجاصة و دار النارنج و الدار الجديدة 18. وهي جميعها ملك لأبي زيد عبد الرحمن بن النجار، صاحب مصانع حياكة الصوف الرفيع التي تشتهر بها مدينة تلمسان في العهد الزياني؛ كما كانت له أيضا دور أخرى، خاصة بأبنائه وخدامه، وحوانيت ومخازن بـدرب شاكر 19. و دار ابن مدور التي انتقلت ملكيتها لآل مرزوق في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر ميلادي 20. وكانت لآل مرزوق أيضا، منازل عديدة مشهورة بدرب مرسى الطلبة، وبالقرب من باب العقبة، ومنازل بالعباد 21.

ولم يبق من هذه الدور والقصور إلا بعض من المشور وقصر الأمراء بأقادير، والقصر القديم بجانب الجامع الأعظم، الذي لم يتخلف من آثاره شئ؛ أما القصور التي بناها أبو تاشفين وسخر لها إمكانيات هائلة فقد اندثرت هي الأخرى وغابت عن الوجود. والجدير بالملاحظة هو أن بعض هذه القصور والدور كانت عظيمة الهيكل كبيرة الأبواب، بنيت على مساحات واسعة من الأرض، بها ساحات معدة لغرس الأشجار والزهور والخضر والفواكه، تتضمن عددا كبيرا من الغرف، لكثرة الولد والحشم والخدم عند أصحابها.

ويكفي أن نقول بأنه لكل دار من هذه الدور حدائق وحمامات وإسطبلات وغيرها من المرافق العامة 22. وتحسبا لفترات الحصار والجفاف، كان صاحب المنازل يحدثون في فناء المنزل أو حديقته الأسراب والمطامير لاختزان الأقوات والمؤن 23.

ويتم بناء السقف بمد الخشب المحكمة النجارة فوق الجدران ثم يضع فوقه الألواح، وبعدها يصب التراب والكلس ويبسط بالمراكز، حتى تتداخل أجزاؤه، وقد انفرد ابن خلدون بالحديث عن زخرفة الجدران داخل البيوت والغرف، بحيث كانت تزين الجدران السفلي بالزليج، وبالجبس أو تكسى بقطع الرخام والخزف، وتنظم في أجزاء متناسقة وتوضع في الكلس، ولم يغفل ابن خلدون أيضا توضيح جانب مهم في البناء وطرق معالجته، وهو المتعلق بمادة البناء بقوله: 'إن بناء جدران المنازل، كان يتم بالحجارة في الغالب الأعم ويلحم بينها بالكلس، ويعالي عليها بالأصبغة والجبس' 24.

1 : 1- ابن الزيات أبو يعقوب يوسف بن يحيى التادلي، التشوف إ إلى رجال التصوف ، تحقيق: أحمد التوفيق، الرباط: منشورات كلية الآداب، 1984، ص ص 405-406.

2 : . DHINA (Attallah) : Le royaume Abdelouadide, Alger : OPU, 1985, p.178

3 : الحسن الوزان، وصف إفريقية، ترجمة: محمد حجي ومحمد الأخضر، بيروت: دار الغرب

الإسلامي، 1983، ط 2، ج 1، ص19.

4 : محمد ابن مرزوق الخطيب، المجموع، مخطوط، الرباط: الخزانة العامة، ميكروفيلم رقم 20 ، ورقة 24.

5 : R. Le TOURNEAU : Les villes musulmanes de l’Afrique du nord,

Alger, 1957, p.42.

6 : محمد بن عبد المنعم السبتي الحميري، الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق: إحسان عباس، بيروت: مؤسسة ناصر للثقافة، 1980، ص 306.

7 : R. Le TOURNEAU : Les villes musulmanes de l’Afrique du nord,

Alger, 1957, p.42.

8 : يذكر بعض الجغرافيين أنه كان للمراحيض منظفون ينعتون بالكنافين، وكان هؤلاء الكنافون في أغلبهم من اليهود كما كان الحال في سجلماسة. أنظر: شهاب الدين ابن فضل الله العمري، كتاب مسالك الأبصار في عجائب الأمصار، مخطوط، تونس:دار الكتب الوطنية، رقم 6778، القسم 7، ورقة 202.

9 : R. Le TOURNEAU : Les villes musulmanes de l’Afrique du nord,

Alger, 1957, p.42.

10 : محمد ابن مرزوق الخطيب، المجموع، مخطوط، الرباط: الخزانة العامة، ميكروفيلم رقم 20 ، ورقة 24.

11 : محمد ابن مرزوق الخطيب، المجموع، مخطوط، الرباط: الخزانة العامة، ميكروفيلم رقم 20 ، ورقة 14.

12 : محمد ابن مرزوق الخطيب، المجموع، مخطوط، الرباط: الخزانة العامة، ميكروفيلم رقم 20 ، ورقة 5.

13 : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مريم، البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان، تحقيق: محمد بن أبي شنب، الجزائر: المطبعة الثعالبية، 1908، ص ص 209-210.

14 : محمد ابن مرزوق الخطيب، المجموع، مخطوط، الرباط: الخزانة العامة، ميكروفيلم رقم 20 ، ورقة 24.

15 : محمد ابن مرزوق الخطيب، المجموع، مخطوط، الرباط: الخزانة العامة، ميكروفيلم رقم 20 ، ورقة 24.

16 : محمد ابن مرزوق الخطيب، المجموع، مخطوط، الرباط: الخزانة العامة، ميكروفيلم رقم 20 ، ورقة 24.

17 : عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، بيروت: منشورات دار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر، 1968، ص 360.

18 : محمد ابن مرزوق الخطيب، المجموع، مخطوط، الرباط: الخزانة العامة، ميكروفيلم رقم 20 ، ورقة 14.

19 : محمد ابن مرزوق الخطيب، المجموع، مخطوط، الرباط: الخزانة العامة، ميكروفيلم رقم 20 ، ورقة 14.

20 : محمد ابن مرزوق الخطيب، المجموع، مخطوط، الرباط: الخزانة العامة، ميكروفيلم رقم 20 ، ورقة 14.

21 : محمد ابن مرزوق الخطيب، المجموع، مخطوط، الرباط: الخزانة العامة، ميكروفيلم رقم 20 ، ورقة 14.

22 : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مريم، البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان، تحقيق: محمد بن أبي شنب، الجزائر: المطبعة الثعالبية، 1908، ص ص 269-270.

23 : عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، بيروت: منشورات دار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر، 1968، ص 407.

24 : عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، بيروت: منشورات دار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر، 1968، ص 408.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)