تتميز منطقة القبائل باحتوائها لعدد كبير من مدارس تعليم القرآن الكريم والزوايا، التي ومنذ القدم كان سكان القرى يعمدون وبفضل إمكانياتهم الخاصة إلى إنجاز ما يسمى عندهم ب«تِمعمرت» أي الزاوية مكان للعبادة، يعقد فيه الشيوخ وسكان القرية اجتماعاتهم للنظر في مشاكل الناس والخلافات القائمة، كما تكون الزاوية مكاناً للصلح ونشر تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وتعد زاوية عائلة محند السعيد أمقران مثالاً على الدور الذي تقوم به الزاوية في فصل النزاعات وإيواء الفقراء والمحتاجين.
لمعرفة أكثر عن تاريخ هذه الزاوية التابعة لزاوية سيدي بهلول بن عاصم الواقعة بقرية شرفة نبهلول بعزازقة ( 35 كلم شرق ولاية تيزي وزو)، تقربت «المساء» من حفيد الشيخ سي الحاج محند السعيد أث مقران المدعو سي عبد الحميد، ليسرد لنا تاريخ هذه الزاوية التي وبالرغم من محاولة الاستعمار الفرنسي كسر أي رغبة في نشر الإسلام وإبطال أي عمل يدعو فيه رجال الدين الشباب إلى عدم الانصياع وراء حملات التنصير وضرورة المقاومة لإخراج المستعمر من البلاد، إلا أنها ظلت صامدة وواصلت رسالتها التي لا يزال أحفاد الشيخ يتبعونها من بعده عبر جيلين لتنقل للأجيال الناشئة.
الشيخ أرزقي بين مواجه الاستعمار ونشر رسالة الإسلام
إن الحديث عن أعمال وسيرة الشيخ محند السعيد (1870-1968) لا حدود لها بالرغم من الوضع السائد آنذاك، إذ لم يستسلم للمحاولات العديدة للاستعمار الفرنسي في كبح نشر الدين الإسلامي، فلقد كان الشيخ يتنقل من مكان لآخر بغية إيصال الرسالة المحمدية على أتم وجه وإبلاغ وإعلام المواطنين بعدم إتباع دين النصارى ووجوب المقاومة، فلقد واجه الاستعمار بحكمته وأفكاره التي أنعم الله بها عليه فميزته عن غيره، وذلك لقوة إيمانه وحكمه العادل ويده التي كان يبسطها كرماً إلى كل منزل وزاوية من منطقة القبائل. وقال حفيد الشيخ المدعو سي طاهر بهذا الشأن، أنه لما توفي جده كان أبوه محند السعيد عمره 7 سنوات، وحسب المتحدث الذي روى على لسان جدته، «أنه لما دخل الاستعمار الفرنسي مدينة عزازقة سنة 1871، كان جدي أمين قرية شرفة، وأنه في أحد الأيام ألقي القبض على 4 فرنسيين (رجلان وامرأتان)، ففيما اقترح الكل قتلهم، رفض جدي لكونه يدرك الغرض من إبقائهم أحياء»، فكان شخصاً حكيماً ورزيناً يميز بين الأمور، وطالب بحراستهم وعاشوا بينهم وبعد مرور سنين، جاءت القوات الفرنسية إلى القرية بسبب الوشاية عن نشاط جده، فخرج هؤلاء الفرنسيون وأخبروا قوات الإحتلال أن هذه العائلة قامت برعايتهم ولم يتلقوا أي تعذيب بل أحسن إليهم، فلقد عاشوا وأكلوا وشربوا معهم، ومكافأة لجدي طالب بوضع حدود لأملاكه وأراضيه حتى لا تتعرض لها القوات الفرنسية، وفعلا قام الشيخ أرزقي بذلك لكنه أدخل ضمن أراضيه أراضي مدينة عزازقة وقرى أخرى تابعة لها من المكان المسمى ايغزر بذلس، وأردف الحفيد قائلا « كان هناك لجدي أعداء لم يعجبهم هذا القرار فقاموا بالوشاية به إلى الفرنسيين بأن ليس كل تلك الأملاك له، فتم حجز كل أملاكه وتم تحديد ما تبقى من قرية شرفة انطلاقاً من المكان المسمى تالة تيلفت»، وكان قاطنو اث فليكي، حيث تتواجد حاليا المدرسة الإكمالية شرفة، طلب منهم الرحيل إلى قرية مسوية ببلدية ايلولا، لكنهم رفضوا ترك أراضيهم، فقدمت لهم أراضي أخرى بقرية فليكي.
يتابع الحفيد رواية جده، «تأزمت أمور جدي بعدما فقد كل ما يملك، لكن كان له أصدقاء من اث لحسن بايلولا، الذين سارعوا إليه لما سمعوا بقصته، فلما دخلوا قال لهم جدي: مرحبا بكم في كل وقت العام الماضي أو هذا العام، لكن معيشة العام الماضي وهذا العام ليست على حالها»، وكان الكلام بمثابة رسالة فهمها الضيوف وتأكدوا أن صديقهم أصبح فقيراً لا يملك ما يقدمه، فعادوا إدراجهم إلى حيث أتوا ثم عادوا وجلبوا له ما استطاعوا من زاد وغذاء».
ومع أواخر فصل الخريف، «جاؤوا إلى جدي وسألوه إن كان لديه أرض لحرثها وزارعتها، فقال لهم نعم، فاستعانوا بالأحصنة والثورين وحرثوا الأرض (تيزا)، فلقد كان رجلاً محترماً، كان يمارس رفقة جماعة رجال الفلاحة بقرية ورقيق بوزرزور، حيث يملك أراضي للفلاحة ويكسب منها رزقه وماله وبعدما أنتجت الأرض غلتها الأولى من القمح توفي جدي أرزقي».
الابن على خطى الأب
تابع سي طاهر قصة عائلته وكيف أصبح والده وهو الابن الأصغر للشيخ أرزقي يضرب به المثل القائل هذا الشبل من ذاك الأسد، «لقد تربى أبي محند السعيد اث مقران يتيما وهو أصغر أولاد جدي، كان يرعى الغنم لإخوته ما بين 10 و12 سنة، ولما بلغ سن ال 15 سنة وبينما كان عائداً من الغابة وأدخل الغنم إلى الإسطبل، همَ إلى تناول بعض الطعام، لتأتي زوجة أخيه فجأة فوجهت له صفعة وهددته بأخبار أخيه، ومن شدة الخوف غادر المنزل نحو العاصمة، واشتغل أعمالا شاقة، وكان الفتى يحمل بداخله نفس مبادئ وأخلاق أبيه، في أول أجرة له منحها إلى أحد العمال ليعيل أهله خاصة وأن زوجته وضعت مولوداً، وفي مساء ذلك اليوم جاء تاجر ينقل الخبز فعرض على محمد السعيد مرافقته من أجل العمل معه فوافق، حيث اشتغل هناك ثم انتقل إلى مطعم حيث أوكله صاحبه كل المسؤولية وأصبح يديره وبعد مماته أعاد المفاتيح لزوجته فعاد محند السعيد إلى قريته، حيث رحب به أهله وقاموا بتزويجه، ومع مرور الوقت كانوا ينتظرون أن يقدم لهم المال ولما تبين أنه لا يملك شيئاً طردوه هو وزوجته ليدخل في رحلة معاناة ثانية، لكن هذه المرة كرب عائلة، ولم يجد الشاب منفذاً أمامه سوى أن يترك زوجته لدى عائلتها ويتنقل هو بين قرية وأخرى، حيث كل يوم يتناول الطعام بقرية معينة فيما إتخذ الغابة مكاناً لنومه، ثم لما علم أهله بمكان نومه إنتقل إلى مسجد تيزبارث ناث زكي ثم إنتقل إلى عشوبة بأزفون، وبعد معاناة الإنتقال قرر العودة إلى قريته شرفة فكان لديه أرض قام ببيعها وصرف مالها على الفقراء والمحتاجين وكذا تصدق ببعضها للزوايا، ليقرر الإستقرار باغيل احبوين أو المعروف باسم امضيق بوحشي الذي سمي بهذا الإسم نسبة لوحشية المكان، فأخذ ينظفه شيئا فشيئا وشيد خلالها المنزل الذي قام أعدائه بهدمه، وأودع شكوى لدى الدرك الفرنسي، ولم يظهر أي شيئ ثم أعاد بناء منزل آخر وكان ولفقره يضع على الباب غصن شجرة بدل الباب».
وفي سياق متصل، ذكر سي طاهر أن «أحد أقرباء العائلة قام بصنع الأبواب لأبي وقال له أن يدفع عندما يكون له المال لكن هذا الأخير غدر به واشتكى به إلى الدرك الفرنسي حوالي 3 أشهر فيما بعد، وحكم عليه دفع غرامة مالية 9 دنانير آنذاك، وكان الكل يظن أن كل أراضي جدي ستحجز، وهناك قال له أبي «اثبورا اقزنزان تيمورا»، أي الأبواب التي بسببها بيعت الأراضي، فقال لهم الحاكم الفرنسي أن نترك هذه الأراضي كضمان ليدفع عن طريقها الديون، لكن فكما كان لجدي أعداء كان له أصدقاء، حيث لما بلغ الخبر المدعو «حمداش» وهو تاجر مغترب ذهب إلى الحاكم ودفع له 10 دنانير فقال له 7 منها لدفع الديون والبقية تقدمها له ليقتني ما يريده لعائلته وأخذ وضعه مع مرور الوقت يتحسن وكان يتولى شؤونه بالمدينة وفي الوقت نفسه يخدم أرضه وينتج».
وشيد محند السعيد بيتاً له وأخر كمسجد الذي لا يزال ورغم مرور السنين شاهدا على أثار العديد من المشايخ الذين قضوا ليلتهم به رغم ضيقه وصغره، وتحول المكان الذي كان غابة إلى قرية كبيرة بفضل جيلين من أبناء وأحفاد الشيح محند السعيد، ولا تزال إلى حد الآن شجرة البلوط تتوسط المنازل والتي حرص الجد على إبقائها لإخبار أبنائهم والأجيال الصاعدة كيف كان المكان قبل سنين. وفي عام 1968 إنطفأت شمعة محند السعيد اث مقران ليحل محله ابنه أرزقي الذي واصل نفس الرسالة التي تربوا عليها وأوصاهم بها جدهم الأول والذي عمل طيلة حياته (1915-1998) على مساعدة المحتاجين والفقراء، ونشر الدين وفصل النزاعات، كان يتنقل من قرية لأخرى كلما دعاه سكانها، ولا يزال العديد من سكان القرى يتذكرون مساهمته في حل عدة مشاكل عالقة وينصحهم بفعل الخير والصلاة ودعاء الله وشكره، ليكرمهم بنعمه وكانت حياته منذ بدايتها إلى غاية آخر نفس له يدعو بالخير والسلم والرحمة ليحل مكانه بعد وفاته ابنه الشيخ عبد الحميد.
استمرار المشاورة في أمور عدة ومساهمة في حل الخلافات
تبين عبر سيرة الجد، الأب والحفيد، أن كل من يقصد الزاوية يأتى بغرض المشاورة حول أمور مختلفة، حيث يقول الشيخ عبد الحميد أن الزاوية التي أسسها أبوه وجده هي مكان أعد للعبادة وتعليم القرآن الكريم، يشمل على مرافق لإيواء عابري السبيل وكذا لإطعام الفقراء والمساكين وكل من يقصد الزاوية، موضحاً أنها تابعة لزاوية سيدي بهلول التي ينحدرون منها ويضيف الشيخ أن الزاوية عبارة عن قلاع صامدة في وجه الاستعمار فلقد كان جده الأول سي أرزقي لا يخاف الاستعمار فواجههم بالحكمة، حيث كان يتميز بالتفكير السليم والرأي السديد وعمل على حماية هوية الأمة من خلال تعليم القران الكريم وتحفيظه، وكذا مواجهة حملات التنصير من خلال نشر تعاليم الإسلام، والإصلاح مع فصل النزاعات بين الناس والعروش أي ما يسمى عند القبائل ب «اذارمى» ودعم المقاومة الشعبية بالمجاهدين الذين تخرجوا من الزاوية والمساهمة في الثورة التحريرية.
وتحدث الشيخ عن نسب عائلته، حيث قال أنها تنحدر من المرابطين «رجال دين» الذين أصلهم قرية شرفة نبهلول (عزازقة)، الذين بدورهم ينحدرون من سلالة سيدي بهلول الغبريني الذي أنجزت له زاوية الواقع مقرها بقرية شرفا نبهلول (عزازقة) التي تحوي تِمعمرت، حيث يدرس العديد من الطلبة الدين وتعاليم العقيدة السمحاء، وفي هذا الشأن قال الشيخ سي عبد الحميد أن أهله ينسبون إلى احمد البهلول بن عاصم الذي ينسب إلى فاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، واتبع أهله الطريقة الرحمانية.
وأضاف أن، الزاوية تضمن ومنذ نشأتها تقديم دروس دينية للأطفال وكل من يرغب في تعليم القرآن، حيث يتوافد عليها على مدار أيام السنة الأطفال الصغار من أجل الاستفادة من دروس يقدمها مشايخ وأساتذة الذين كانوا في وقت مضى تلاميذ الشيخ أرزقي وأصدقائه، وذكر على سبيل المثال شيخ علي اقوسيم، سي شريف بوزقان، محند أكلي نبوشاقور، سي موح نشريف معامر، الإمام السعيد أزفون، الشيخ مزيان نشبل وغيرهم، مشيداً بتمسّك عائلته منذ القدم بكرم الضيافة فكل زائر لمنزل عائلته ، يلمس طبائع الجود وحسن الضيافة التي حافظ عليها أبناء الحاج أرزقي وابنه محند السعيد وصولًا إلى الحاج أرزقي الحفيد وابنه سي عبد الحميد، حيث لا يزال وبعد مرور السنين منزل العائلة مفتوحاً لكل فقير، عابر سبيل ومريض يبحث عن شفاء لمرضه وراحة وطمأنينة، في كل وقت تقصد فيه هذا المنزل تجد أهله ينتظرون الزوار بذراع مفتوحة وقلب منشرح، يحس فيه الفرد كأنه من أهل البيت.
وكان الناس يزورن هذا المكان لمشاورة الشيخ في أمور عدة، مثل ما كان يفعل أسلافه فلكما قصده شخص مهموم يعود بعدها مطمئن القلب وقد انقشع الضباب عن فكره ليصبح يبصر بقوة الإيمان بالله وبالصلاة التي يحث عليها الشيخ سي عبد الحميد تنفيذا لما أوصاه به جده وأبوه وقبل ذلك لما فرضه الله على عباده الصالحين.
وذكر أن منزلهم العائلي تردد عليه كل من شيخ شريف اثمليلي، اعراب اويحي، الشيخ ابو بلقسام، ابو جديد اسحنون وغيرهم من المشايخ الذين كان جده يزورهم ويزورونه، فلقد كان يحب زيارة الزوايا، كما ذكر بعض الأقاويل التي كان يحب جده محند السعيد اث مقران قولها، كما أضاف أن جده محند السعيد كان لا يرفض أي طلب، حيث في أحد الأيام طلبت منه عمته ياما تستعديت أن يحضر لها في منتصف الليل معزاً اشتهت أكله ففعل، ولما أحضره لم تأكله فقالت له أريد دجاجا فأحضره وطبخه، فرفضت أكله وطلبت طبقا أخر وهكذا، إلى أن بلغ عدد الأطباق التي حضرها وطبخها لها سبعة أطباق فدعت عليه بقولها «كسرت عنك مهد البنات» ولم يكن له سوى الذكور وكان له طاهر، محمد، احمد، وأرزقي.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 24/08/2012
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : س زميحي
المصدر : www.el-massa.com