تمهيد:
رغم ما صيغ من افتراضات عن العمارة المحلية ببلاد المغرب القديم، وبمفهومها الشامل عمارة مدنية، عسكرية، دينية… فإنّها لم تصل بعد، إلى درجة الوضوح واليقين؛ بحيث لم تتعد الدّراسات والبحوث في هذا المجال، نطاق آثار ومعالم العمارة الجنائزية فقط والمتمثلة في القبور الميڨاليتية والأضرحة الملكية، التي تأكّد الكل من وحدتها الثقافية، رغم انتشارها الجغرافي الواسع عبر كل مناطق الشمال الافريقي.
ونظرا لانعدام الأبحاث المتخصّصة والمتعمقة، تبقى مسألة عمران شمال إفريقيا خلال الفترة ما قبل الرومانية، يكتنفها الكثير من الغموض، فمسكن فترة فجر التاريخ لم يتم تعريفه وتحديد خصائصه إلى وقتنا الحالي، ويتفق معظم الباحثين على أن المغاربة القدماء، كانوا قد اتخذوا من المغارات والكهوف(Troglodytes) والملاجئ الصّخرية مأوى ومساكن لهم (1)، وهذا ما نجد الإشارة إليه وذكره في بعض النصوص التاريخية القديمة، كما أننا نلاحظ ديمومة واستمرارية هذا النوع من الاستقرار البشري إلى فترة ليست بالبعيدة عنّا، مثل كهوف نفّوسا بليبيا ومطماطا بتونس وكهوف أوراس، كما نجدها منتشرة غربا حتى جزر كناري بالمحيط الأطلسي، والتي يطلق عليها غالبا اسم إيفران (جمع إيفري) بمعنى المغارة أو الكهف. وقد اتخذت العديد من الأقوام المغاربية هذه التسمية كاسم علم لها مثل آيث يفران، وربما كانت كذلك أصل تسمية إفريقيا كما يعتقد كثير من المؤرخين، إذ يرى الباحث جابريال كامبس(G. Camps) احتمال استقرار سكان المغرب القديم بهذه الملاجئ الكهوفية ابتداء من الفترة النيوليتية وفجر التاريخ (2)، وذلك ما يدلّ عليه الانتشار الواسع لهذا النوع من آثار الاستيطان البشري بشمال إفريقيا للعديد من المواقع المنيعة التي تتواجد في بعض المناطق الجبلية على قمم الصخور والمرتفعات. [خريطة رقم 1]، كانت قد استغلّت مناعتها الطبيعية لبناء مراكز وتجمعات سكانية من قبل الأمازيغ القدماء؛ اكتشفت أمثلة منها في العديد من الأماكن بالكتلة الجبلية الأوراسية (3)، تكون عادة صعبة الوصول إليها لكونها محصّنة طبيعيا عن طريق الأجراف والهواة العميقة التي تحيط بها من كل الجهات، وفي بعض الأحيان يبنى سور دفاعي من الجهة التي لا توفر حماية ومناعة للموقع مثلما هو الأمر بـ: إيشوقّان (4). والجدير بالذكر أنّ هذه المواقع تنتشر بكثرة عبر كل مناطق الكتلة الأوراسية خاصة بعمقها الجبلي الذي يعتبر بمثابة حصن طبيعي منيع نظرا لتكوينه الجيولوجي المتمثل في كثرة مرتفعاته التي تنتهي بمنحدرات شديدة ذات الصخور والقمم الشاهقة العلو والمناعة الطبيعية، والهواة والمضايق والفجاج… ويطلق سكان المنطقة على هذه المواقع تسمية ثيقلعين أي القلاع؛ وغالبا ما ترتبط هذه التسمية بنسبتها إلى القبيلة أو العرش مالك القلعة. وعلى سبيل المثال نذكر: ثاقلعيت نـ-آث لمّوش (قلعة لّمامشا) الواقعة بشرق الكتلة الأوراسية مع مسار إيغزر آيث بربار بجبل ششّار. والملاحظ أن هذه القلاع تشيّد أساسا لأغراض اقتصادية واجتماعية أكثر منها دفاعية أو حربية. فهي تعبر عن تجسيد لنظام اقتصادي محلي يتمثل في الاحتياط والادخار ليوم الحاجة، للمحاصيل الفلاحية من حبوب جافة وفواكه بالإضافة كذلك إلى عدة مؤن أخرى مثل العسل والسمن و الزيت… ومن الناحية الاجتماعية فهي ترمز إلى وحدة القبيلة وإلى مختلف العلاقات بين أفرادها والحفاظ على نسبها و نلسها، ذلك إن كل أسرة منها تملك حيزا أو مكانا خاصا بها تدخر فيها مؤونتها إلى حين عودتها من رحلة الشتاء، أين تستقر بالحدود الجنوبية للكتلة الأوراسية المتاخمة للصحراء وبعد هذه الإقامة الشتوية تعود إلى موطنها الأم (القرية)، ومن هنا يمكننا ملاحظة الدور الاجتماعي الذي تلعبه القلعة الأوراسية في ربط مختلف الأسر والعشائر بالقبيلة الأم ونواة قريتها الأصل . لكن الأمر الذي جذب انتباه معظم الباحثين الذين جابوا الكتلة الأوراسية طولا وعرضا، في إطار حملات الأبحاث الاستكشافية خلال القرن 19م، هو آثار تلك القلاع المنيعة والمنعزلة، التي تشبه إلى حد كبير قلاع الإقطاعيين الأوروبية خلال القرون الوسطى، والتي تختلف في تنظيمها الهيكلي وفي مخططها عن قلاع القبائل الأوراسية الحالية، فهي تمثل وحدة تجمع عمراني كامل، أي مركز تجمع سكني تام بجميع عناصره الأساسية (العمرانية) وهذا عكس ما نلاحظه لدى القلاع المذكورة سابقا المتكونة أساسا من حجر أو غرف للتخزين ضيقة وصغيرة الأبعاد لا تصلح للإقامة أو التحصن بها. وعلى هذا الأساس يري أغلب الباحثين الذين زاروا هذه المواقع، أنها كانت قد شيّدت لغرض دفاعي، نظرا لحصانتها ومناعتها وصعوبة منافذها، ممّا يسهل عملية الدّفاع عنها. ويطلق السّكان حاليا على هذه المواقع تسمية ”أهنشير” أو ”أشير” بمعنى: أطلال أو بقايا لآثار البنايات والتشييدات القديمة التي هجرت؛ هذا، بالإضافة إلى عدم احتفاظ ذاكرتهم بأهم الأخبار والتفاصيل التي تتعلق بمنجزي هذه القلاع وتاريخها، وكل معلوماتهم عنها، تتلخّص في كونها قد شيّدت من طرف أسلافهم الأولين أثناء فترة التواجد الروماني للّجوء إليها والتحصن بها أثناء الحروب. كما تنسب إلى الرومان في بعض المناطق. وفي مناطق أخرى إلى ملكة أوراس الكاهنة. وقد ارتبطت كذلك هذه المواقع بالعديد من الأساطير والقصص الشعبية، مثل تلك التي تقول بأنها كانت مأوى الجهال (العماليق) والجن وحتى أقوام ومخلوقات مجنحة. وممّا لا شك فيه هو قدم هذه المواقع الدّفاعية المنيعة، رغم الاختلاف والتناقض وحتى تجاوز الصواب والمنطق فيما يتعلق بمفهومها أو تفسير تواجدها لدى الكثير من العامّة في بعض الأحيان. بل بالعكس، نرى في ذلك تدعيما وتأكيدا على قدمها وعراقتها عبر التاريخ، ولا نعتبر القلاع الحالية المعروفة الهوية سوى استمرار لتقاليد أصيلة لدى سكان المنطقة منذ القدم. غير أنّ هذه المواقع ومنذ إشارة بعض الباحثين إليها ضمن سطور مقالاتهم وتقاريرهم، إلاّ أنها لم تشهد أيّ عملية تنقيب ولم تكن محل أيّ دراسة أو بحث علمي معمّق ومنهجي لإبراز خصائصها المعمارية، وأهميتها التاريخية التي يمكن أن تعوّض إلى حد كبير من نقص معلومات المصادر التاريخية، باعتبارها من ضمن الشّواهد الأثرية التي بإمكانها تسليط الضّوء على جوانب عدّة، وتزويدنا بمعلومات هامة من تاريخ الأقوام الأمازيغية التي اعتصمت بالكتلة الأوراسية، كما أنها قد تسمح لنا كذلك بمعرفة بعض جوانب البيئة السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية لهذه الأقوام عبر مختلف العهود التي مرّت بها المنطقة .
الانتشار الجغرافي للمواقع الدفاعية الأوراسية :
الملاحظة الميدانية الهامة التي يجدر الإشارة إليها هنا، هي تلك التي تتعلّق بالانتشار الجغرافي لهذه المواقع (آثار القلاع المحصنة والدفاعية)؛ فباستثناء المواقع المنيعة الواقعة جنوب سلسلة ماڨ أزوڨاغ (أحمر خدّو)، مع مسار إيغزر مسرور بالجزء الغربي للكتلة الجبلية الأوراسية (هاجمينت، رمّان، مّلحبال، هابندوتّ)، ورغم التّحريات والزيارات العديدة التي قمنا بها فإننا لم نعثر على أي أثر لهذا النوع من المواقع بالنسبة لهذا القطاع الجغرافي من الكتلة الأوراسية. وبالمقابل كنا قد لاحظنا أن بقايا وآثار هذه المواقع المحصّنة تتواجد وتنتشر بكثرة عبر كل جهات المنطقة الشرقية للكتلة الأوراسية، ونذكر على سبيل المثال قلاع: الجحفة، هشابورث (شّابور)، الشطاية، والفج بالقطاع الجبلي المجاور لمنطقة ماسكولا (خنشلا). فضلا على قلاع: ثاغيت، ثيزقريرين، كونترو، خيران بمنطقة جبل ششّار بسلسلة جبال آيث لمّوش. معظم هذه المواقع قمنا بزيارتها، وذلك لأخذ نظرة شاملة لها ولغرض المعرفة الميدانية المباشرة لخصائصها وآثارها المتبقيّة منها. ونظرا لشساعة الإطار الجغرافي لتوزيعها وانتشارها، ولاستحالة دراسة كل خصائصها بهذا المقال، والذي سنحاول من خلاله أن نذكر ونستخلص عدّة معطيات ميدانية، انطلاقا من تناولنا لبعض النّماذج منها فقط، معتمدين على منهجية معينة، ومحاولين الإلمام بمختلف ميزاتها وخصائصها وتحديد أوجه التشابه والاختلاف بينها، والتي ربما تؤدي إلى استنتاجات جدّ هامة لموضوع بحثنا هذا. المواقع الدفاعية بمنطقة جبل ششّار: جغرافية جبل ششّار: تطلق تسمية منطقة جبل ششّار على الكتلة الجبلية الممتدة جغرافيا باتجاه غرب الكتلة الأوراسية الشرقية (جبال آيث لمّوش) والمحصورة بين إيغزر بجر – آيث بربار شرقا، و إيغزر أمقران (واد لعرب) غربا، هذا الأخير، يعتبر الحد الطبيعي الفاصل بينها وبين سلسلة جبال آيث ملول. ما يميز هذه المنطقة بالخصوص هو وفرة مجاريها المائية طوال السنة والمتمثلة في مجرى إيغزر بجر-آيث بربار وإيغزر فرّوج إيغزر جلاّل وإيغزر أمقران، والتي كانت كلها السبب خلال العهود الجيولوجية الغابرة في تكوين العديد من المضايق والفجاج والأخاديد الطبيعية مثل ”إيمي ن تاغيت” و”سيّار” و”أخنّاق ن سيدي ناجي”…، ممّا جعل هذه المنطقة تكتسب مناعة طبيعية، خاصّة من جهاتها الثلاث: الشمالية والشرقية والغربية، المميزة بالصّخور المنتصبة (الكيفان)، والمنحدرات الشديدة والوعرة، والمرتفعات ذات العلو الشاهق. وبالإضافة إلى وفرة مجاريها المائية ومناعتها وحصانتها الطبيعية، فإنها تمثل منطقة إستراتيجية هامة، فهي تشرف بمرتفعاتها على جميع المناطق المجاورة لها وذلك على امتداد شاسع وأفاق بعيدة.وكل هذه الميزات والخصائص جعلت من منطقة جبل ششّار نقطة استقطاب واستقرار السكان القدماء، وتشييد العديد من المراكز العمرانية والقلاع المحصّنة بقمم الصخور والمرتفعات الوعرة، مازالت آثار وبقايا هذا الاستيطان القديم، قائمة تشهد على ذلك. ملاحظة حول الخريطة الأثرية لجبل ششار: في الحقيقة لم يكن هدفنا القيام بعملية مسح وتحري أثري شامل لمنطقة جبل ششّار، أو حتى لإعداد وتحضير أطلس أثري لها، لأن الغرض الأساسي لهذا البحث كان الدراسة الميدانية للمراكز والمواقع المحصّنة لا غير، لكن عند زيارتنا لها ارتأينا معاينة وتحري المنطقة في العديد من الجهات، وفحص فضائها وخريطتها الأثرية لعلّنا ربما نصل إلى وجود علاقة بين هذه المواقع والمراكز، مع تنظيم المحيط الطبيعي والأراضي المحيطة والمجاورة لها. وقد اعتمدنا في ذلك، أولا على الأطلس الأثري لـ: ستيفان ڨزال (St. Gsell) (5)، وثانيا على كل من الدراسة التاريخية التي قام بها إيميل ماسكوراي (E. Masqueray) خلال القرن الماضي (6)، وأعمال جون بيريبانت (J. Birebent) الذي اهتمّ بأعمال الري والهيدروغرافيا بهذه المنطقة خلال الفترة الرومانية (7). ففيما يتعلق بعمل الباحث ڨزال، فإن الجرد الذي قام به للمواقع الأثرية المتواجدة بالعديد من المناطق بهذا القطاع الجغرافي، قد أهمل الإشارة إلى الكثير منها، ويعود ذلك إلى جهله للمنطقة وعدم معرفته الميدانية لها، فكل ما قام به هو عملية جرد لبعض المواقع فقط من خلال المواقع التي نشرها الباحث ماسكوراي في العديد من مقالاته بالإضافة إلى معلومات بعض ضباط مصلحة الطبوغرافية (الجغرافية العسكرية) أثناء إعدادها لخريطة الكتلة الأوراسية بالقرن الماضي.أما الباحث ماسكوراي فكانت تحرياته الأثرية للمنطقة، كلاسيكية وتقليدية، أي أنّ كل اهتماماته كانت منصبة على اكتشاف الكتابات الأثرية وعلى دراسة آثار المنجزات العمرانية المبنية بالحجارة المنحوتة (الرومانية)، ثم إنسانها مباشرة إلى مخلّفات الحضارة الرومانية بدون أي أدلة أو براهين مقنعة في بعض الأحيان (ونفس الملاحظة نقولها كذلك بالنّسبة لأعمال بيريبانت) بالإضافة إلى إعطائه أهمية كبرى للقصص والحكايات الشعبية، واعتماده المبالغ فيه عليها، في تحاليله ودراساته لتاريخ المنطقة في القديم. ولاحظنا إهماله للعديد من المواقع الأثرية، التي لا تتوفر بقاياها على الحجار المنحوتة، أو التي لم تبن بتقنيات رومانية ولهذا السبب فإننا نرى عدم الاعتماد الكلي على الملاحظات التي لا تعطي صورة دقيقة وصادقة للمظهر العمراني الذي كانت عليه المنطقة قديما. ونشير إلى أنّ أعماله كانت المرجع الأساسي لعمل ڨزال في جرد المواقع الأثرية لهذه المنطقة بأطلسه الأثري. أمثلة من المواقع المجهولة تماما في السابق:
تزخر منطقة جبل ششّار بالعديد من المواقع الأثرية (المحلية والرومانية) والتي لاحظنا أنها كانت منتشرة بشكل مكثّف مع طول ضفاف مسار إيغزر بجر – آيث بربار، ابتداء من ”إيمي ن تاغيت” (رّاخوش) حتى قرية العامرة أي على امتداد مسافة حوالي 20 كلم. وتتمثل أساسا في بقايا أثرية لبنايات شيّدت بتقنيات رومانية (تقنية البناء بالحجارة المنتظمة والتقنية الإفريقية) بالإضافة إلى كثرة بقايا العناصر المعمارية لمعاصر الزيتون، وكذلك النقيشات اللاتينية …، وهذا ما يدل على المنطقة كانت قد شهدت نشاطا حيويا ومكثفا أثناء فترة التواجد الروماني بها، وهي الملاحظة التي مازالت عالقة في ذاكرة سكان هذه المنطقة إلى اليوم فيما يتعلق بوضعها الاقتصادي والفلاحي في القديم. ويرى ماسكوراي في ظاهرة انتشار زراعة أشجار الزيتون وصناعته بهذه المنطقة حاليا، أنها من تقاليد التقنيات العائدة إلى فترة التواجد الروماني والتي ورثها سكان المنطقة عنهم. والملاحظة الهامة، التي نريد أن نشير إليها هنا، هي عدم ذكر من قبل جميع الباحثين الذين جابوا المنطقة لوجود البقايا الأثرية التي عثرنا عليها بشمال قرية مزّين وبالتحديد بقمة صخرة ”ثافخسيت” بمضايق رّاخوش عند اجتياز ”إيمي ن تاغيت”. والمتمثلة في بقايا لموقع دفاعي (قلعة محصنة)، لا ينفذ إليها سوى من جهة واحدة، تمكّنا من معرفة وتحديد أسس سورها الحصين المبني بالحجارة الضخمة والمنحوتة نسبيا كما تشهد آثار بعض أجزائه على ذلك، أما جدرانها الداخلية والتي تفصل بين مختلف وحداتها المعمارية فهي مبنية بتقنيات ذات طابع محلي (الحجارة الطبيعية). ورغم انعدام الكتابات الأثرية بهذا الموقع (في الوقت الحالي) إلا أننا تأكدنا من قدمه بدليل كثافة وانتشار شقف الفخار الروماني من نوع السيجيلي وكذا الفخار المحلي، بسط كل مساحة هذا الموقع والمنطقة المجاورة له. ومن الملاحظات التي أشار إليها ماسكوراي، هي انعدام القبور المحلية (أي الدائرية) بهذا القطاع الجغرافي لمنطقة جبل ششّار، بينما يمكن لأي منّا التأكد من خطأ هذه الملاحظة وذلك بوجود العديد من القبور من نمط التلال الحجرية ذات الشكل الهرمي والمستدير، الواقعة بإحدى الربوات المرتفعة شرق قرية مزِّين، وبالتحديد قرب آثار العين الرّومانية (على بعد حوالي 200 متر منها شرقا) والتي يطلق عليها سكان المنطقة اسم ثيط نـ-تاغيولت. الملاجئ الكهوفية ”ثاغيت – زاوية آيث بربار”: ما يشدّ الانتباه حقا، هو آثار تلك الملاجئ الكهوفية والمتمثلة في بنايات متعددة الطوابق، ذات الطابع المحلي، والمشيّدة بمنتصف الصخور (الكيفان) المنتصبة والمنيعة، فهي عكس القلاع المحصّنة بأعلى القمم المسطحة للكتل الصخرية المنفصلة عن محيطها بواسطة هوّاة وشعاب عميقة وفي غاية الصّعوبة، وهناك يمكن الاختلاف من الناحية التنميطية بين هذه المواقع.
فقد استغلّت الميزة الجيولوجية لتكوين الصخور المحيطة بـ إيغزر بجر- آيث بربار من الضفتين الغربية والشرقية لإقامة عدة مواقع منيعة، بحيث يكون الصعود إليها في غاية الصعوبة ومستحيلا في مواضع أخرى؛ وتتمثّل هذه الميزة قي الأخاديد الطبيعية المنحوتة في الصخر على شكل فجوات داخلية متوازية، منتشرة على طول مسافة امتداد هذه الصخور بين قرية ثاغيت وقرية زاوية آيث بربار. وما يميّز معظم هذه البنايات هو بناؤها على ارتفاع وعلو شاهق مما يجعلها في غاية المناعة والحصانة بحيث يتعذر الوصول إليها سواء من أسفل الصخرة أو من أعلى قمّتها لأن مشيّديها كانوا قد اختاروا لبنائها تلك الفجوات الطبيعية المتواجدة بمنتصف علو الصخرة التي يفوق ارتفاعها في بعض المواضع الـ 50 مترا. والشيء الملاحظ عند أسفل هذه الصخور مباشرة هو التواجد الكثيف لبقايا كل من شقف الفخّار المحلي والروماني . القلاع المحصِّنة ”ثيزڨرارين” و”كونترو”: يتواجد هذا النمط من التشييدات بالعديد من الجهات بهذه المنطقة، لكن من أهمها على الإطلاق هي قلعة ثيزڨرارين وقلعة كونترو، الواقعتين على بعد حوالي 3 كلم غرب قرية العامرة وإيغزر آيث بربار.
01. ثيزڨرارين:
هذا الموقع المنيع، عبارة عن جرف طبيعي عظيم منتصب وكأنه جدار صخري شاهق العلو وقد شيدت بسفحه قرية ذات طابع محلي تعرف بنفس الاسم (ثيزڨرارين) مازالت أثارها وبقايا أسس وجدران وحداتها السكنية قائمة ليومنا هذا. وهي تتميّز بانعدام التخطيط المنتظم وتراصّها إلى بعضها البعض. ويمتد موقعها غرب المنخفض الوعر والمحمي طبيعيا بالأجراف المحيط به على طول مساحة حوالي 600 متر طولا و100 متر عرضا. ونشير هنا، إلى وجود بقايا لأثار بنايات رومانية مجاورة لها (يصعب تحديد وضيفتها ويحتمل أن تكون مركز لبرج حراسة ومراقبة) وكذلك إلى انتشار الفخار الروماني من النوع السيجلي بكثرة مع تواجد لشقف الفخار المحلي لكن بنسبة أقل. أما فيما يتعلق بقلعة ثيزڨرارين، فهي عبارة عن قرية محصّنة تحتل كل المساحة المسطّحة لقمّة الصخرة التي تحفها المنحدرات العميقة من كل جهة، ويبلغ ارتفاعها حوالي المائة متر على الأقل. وهي أشبه بتلك التحصينات والملاجئ المعلقة بالمرتفعات في أوروبا خلال القرون الوسطي، إذ لا نصل إليها إلا بواسطة المنفذ الضيّق والوحيد المتواجد بأسفل الصخرة والمحصور في شق طبيعي يمتد مع علو وارتفاع الصخرة إلى غاية بلوغ قمتها، ولا يمكن اكتشافه إلا إذا قمنا بالدوران حول الصخرة من الناحية الغربية. استغل بناة القلعة هذا الشق الجيولوجي بداخل الصخرة، وأنجزوا مسلكا متدرجا به بعد تهيئة منحدر مائل وذلك بردم الشق بالتربة ثم رصّ الحجارة الضخمة بداخله، وتكوّن بذلك على مستوى هذا المنحدر رواق يؤدي من أسفل الصخرة إلى قمتها، حيث لاحظنا مع نهاية هذا الرواق مباشرة وجود ساحة مسطحة محاطة ببقايا آثار العديد من البنايات. وقد قسمت مختلف فضاءاتها بسطح هذه الصخرة بواسطة تهيئات من الحجارة الضخمة، تعتبر كحاجز بينهما، حيث لا يمكن العبور إليها من خلال ساحة أولى وباتجاه نهجين إثنين، أحدهما يؤدي إلى أعلى مستوى بالقلعة حيث يوجد برج مراقبة، يشرف عليها وعلى كل المناطق المجاورة للموقع أما النهج الثاني فهو يؤدي إلى تجمع لسكنات متراصة فيما بينها ومستندة على صور حصين يحيط بالقلعة من كل النواحي. والقلعة مزودة كذلك بحوض دائري لتخزين المياه منحوت داخل الصخر.
2-كونترو :
في نفس القطاع دائما، يمكن ملاحظة موقع دفاعي منيع آخر، على بعد كيلومترين جنوب شرق ثيزڨرارين، والذي لا يختلف في ميزاته (المناعة والحصانة) عن الموقع الأول. ويطلق عليه سكان المنطقة تسمية كونترو، أين توجد بقايا آثار قديمة لقلعة معلقة بأعلى قمة الصخرة التي تعرف بنفس الاسم. وقد حاولنا الصعود إلى قمتها والبحث عن منفذها، لكن بدون جدوى، لأننا لم نعثر له على أثر، فكل ملاحظاتنا كانت مأخوذة من أ سفل الصخرة حيث تمكننا من تحديد ومعرفة ميزة خاصة لموقع كونترو فقط، فهو إلى جانب احتوائه على قلعة منيعة بقمة الصخرة (يمكن مشاهدة آثار سورها الدفاعي) فإنه يحتوي كذلك على ملاجئ كهوفية داخل طبقات الصخرة المشكلة لجدارها الصخري. بالإضافة إلى هذا فقد لاحظنا انتشارا كثيفا للفخار المحلي والروماني (السجيلي) أسفل سفح الصخرة وكذلك بكل سطح المساحة الفاصلة بين قلعة كونترو وقلعة ثيزڨرارين. المواقع المحصنة بمنطقة جبل ماڨ أزوڨاغ: نفس الخصائص الجغرافية والجيولوجية، التي تتميّز بها منطقة جبل ششّار، يمكن تعميمها بالنسبة لمنطقة جنوب جبل ماڨ أزوڨاغ (جنوب الكتلة الأوراسية)، والتي تتميز هي كذلك بمناعتها وكثرة صخورها الشّاهقة وأجرافها الشّديدة الانحدار ومضايقها وشعابها العميقة، إلى جانب وفرة مجاريها المائية في العديد من الجهات بهذه المنطقة، ممّا جعلها ملجأ استقطاب بشري منذ القدم. والدليل عن ذلك كثرة مواقعها الدفاعية المحصنة، الأمر الذي يشير إلى استقرار وتعايش بها نظرا لميزتها الأمنية المتمثلة في خصائصها الجغرافية والاستراتيجية (المناعة والحصانة). وقد تأكدنا من ذلك أثناء زيارتنا الميدانية لهذه المنطقة، التي تحتوي على المئات من القبور (الدائرية الشّكل) وعلى امتداد واسع عبر كل مرتفعاتها وربواتها العالية في اتجاه شمال جنوب أي من عمق الكتلة الجبلية حتى التّخوم الجنوبية الصحراوية. ورغم العدد الهائل لهذه القبور المستديرة وانتشارها الجغرافي الواسع على امتداد كل المنطقة الواقعة جنوب سلسلة جبل ماڨ أزوڨاغ، فإننا لم نجد لها أي إشارة في الأطلس الأثري ولا أي ذكر في الأبحاث والدراسات الأثرية، مثلها، مثل العديد من المواقع الأثرية (المحلية أو الرومانية) والتي تشهد على كثافة عمرانية واستقرار بشري قديم بها. ومن هذه المواقع التي لم يشر إليها أطلس ستيفان قزال نذكر على سبيل المثال: موقع بوتان، موقع شير ملوك – إلماثن – ثيزي لّصنام – امهارش، موقع أهنشير نتروميث، موقع أشّارن، موقع قلاع سيدي مصمودي (فريوة – بوعجينة)، موقع هابندوتّ (قلعة محلية وأثار رومانية). وأهم آثار هذه المنطقة على الخصوص هي بقايا المواقع الدّفاعية بناحية إيغزر مسرور: (رمّان وتاجمينت) وقلعة هابندوتّ بناحية أخنَّاق ن لاخرث (خنقة لاخرة) بالإضافة إلى موقع بوطّيقان (مايعني مغارات بالعربية).1-إيغزر مسرور (تاقصريت – رمّان – تاجمينت):
يمكن ملاحظة بقايا آثار قلعة منيعة للموقع المعروف باسم رمّان، وهي عبارة عن مجموعة بنايات حصينة ذات طابع محلي متراصة ومستندة إلى بعضها البعض، ترتكز على منحدر شديد بمنتصف صخرة موقع رمّان، بالإضافة إلى وجود بقايا ربما لبرج مراقبة بأعلى قمة الصخرة، وهذا قبل الوصول إلى رمان من الناحية الجنوبية ويحمل هذا الموقع اسم تاقصريت. وبالقرب من موقع رمّان توجد آثار ملاجئ كهوفية بالمكان المعروف باسم (تاجمينت)، وهو شبيه بتلك المتواجدة بإيغزر بجر – آيث بربار (جبل ششار) تمتد هذه البنايات الكهوفية عبر جدار الصخر إلى غاية موقع ”تاجموت”. وهذا على طول مسار إيغزر مسرور.
وخلال معاينتنا الميدانية لهذه المواقع سجّلنا الملاحظات التالية: وجود آثار رومانية مندثرة بـ إيغزر مسرور بالقرب من موقع كل من رمّان وهاجمينت (حجارة ضخمة ومنحوتة وجذوع لأعمدة مستديرة)، مع الإشارة إلى انعدام الحجارة المنحوتة في بنايات المواقع الدفاعية. مثل مواقع جبل ششّار، فإن مواقع هذه المنطقة قد شيّدت أيضا بمنتصف الصخور المنتصبة وبعمق الأخاديد والتجاويف الطبيعية، وعلى مستوى يجعل الوصول إليها مستحيلا (ما بين 70 و100 مترا). تشكّل هذه المواقع في بعض المواضع ثلاثة طوابق، متوّضعة فوق بعضها البعض مباشرة، بحيث تفرّق قطع خشبية من جذوع الشجر بن مستوياتها. انعدام تام لبقايا أو لآثار الفخار الروماني، بينما نلاحظ انتشار كثيف لشقف الفخار المحلي على سفوح الصخور. 2-قلعة هاجمينت :
بنفس الموقع أين تنتشر الملاجئ الكهوفية (هاجمينت) توجد صخرة منيعة ومعزولة عن محيطها تماما، لا يوجد فرق بينها وبين قلعة تيزقررين بجبل ششّار حيث تنتهي هي أيضا بمساحة مسطحة بأعلى قمتها، يبلغ طولها حوالي المئة متر وعرضها 50 متر ولا يمكن الصعود والنفوذ إليها إلا عن طريق شق طبيعي بداخلها، يخترقها من الأسفل إلى الأعلى حتى بلوغ قمتها أين توجد آثار قلعة محلية (تجمع سكني محصن) 3-موقع بوتقان:
بالمنطقة دائما وبالضبط بالمكان المعروف باسم بوطّيقان، أين يمكن ملاحظة آثار موقع آخر منيع وحصين بالمنحدر الشرقي لجبل ماڨ أزوڨاغ وهي عبارة عن مغارات منحوتة داخل الصخر ذات شكل دائري ومتوضّعة فوق بعضها البعض، ويبلغ ارتفاعها حوالي (1.5 م/2م) وقطرها 2 متر كذلك. 4 –موقع هابندوتّ:
بناحية أخنَّاق ن لاخرث، غرب منطقة ”هاجمينت، وبالموقع المعروف باسم ”هابندوتّ” مازالت آثار قلعة في غاية المناعة وذلك من خلال موقعها الحصين جدا، فهي مبنية فوق صخرة منعزلة ومنتصبة على ارتفاع حوالي 200 متر، وقد تهدّم الجسر الذي كان يربط الصخرة بالصخرة التي تقابلها من الجهة الغربية على بعد حوالي 10 متر منها، ممّا جعلها بعيدة ومحمية عن الأيدي المخربة، فاحتفظت هذه القلعة بكامل سورها الحصين وجدرانها الداخلية، ويمكن ملاحظة خصائص هندستها المعمارية المحلية جيدا، وبنوع من التفصيل والدقّة
بيبليوغرافيا المقال: الأطالس: St. Gsell, Atlas Archéologique de l’Algérie, Alger, 1902 (suppl. 1916) Barrington Atlas of the Greek and Roman World, Edited by Richard J. A. Tablent, Princeton University Press, 2000 مقالات علمية ومونوغرافية: E. Asmhri et H. Ramou, « Réflexions sur les origines et l’évolution des Igoudar », Igoudar. Un patrimoine culturel à valoriser, Publication de l’IRCAM (Série Colloque et Séminaires N° 30), Rabat, 2013 M.-C. Delaigue, J. Onrubia Pintado,Y. Bokbot, A. Amarir, « Une technique d’engrangement, un symbole perché : le grenier fortifié nord-africain », Revue Techniques & Culture, N° 57, 2011/2 St. Gsell, H. Graillot, « Ruines romaines au nord des monts de Batna », Mélanges d’archéologie et d’histoire de l’École française de Rome, 14, 1894 Guerbabi, «Protohistoire de l’Aurès. Réflexions méthodologies», Revue Aouras, N°3, Paris, Sept.2006 E. Masqueray, « Ruines anciennes de Khenchela à Besseriani (AD MAIORES) », Revue africaine, T.22, 1878 E. Masqueray, « Le Djebel-Chechar », Revue africaine, 22, 1878, E. Masqueray, « Voyage dans l’Aouras. Études historiques ». Bulletin de la Société de Géographie de Paris, 6è série XII, 1976 P. Morisot, « La Zaouia des Béni Babar, cité pérégrine ou municipe latin ? », Paris, Bull. arch. du CTHS, 1988 L. Rinn, « Géographie ancienne de l’Algérie. Les premiers royaumes berbères et la guerre de Jugurtha », Revue africaine, T.29, 1885 Id., « Localités désignées par l’historien Procope, en son récit de la 2ème expédition de Solomon dans le Djebel Aourès (année 539 Ap. J.C.) », Revue africaine, T.37, 1893, Vaissière, « Les Ouled Rechaich », Revue africaine, T.37, 1893 دراسات تاريخية: J. Birebent, Aquae Romanae, Service des antiquités d’Alger, 1962. G. Camps, Aux origines de la Berbérie. Monuments et rites funéraires protohistoriques, Paris, 1961. Id., Aux origines de la Berbérie. Massinissa ou les débuts de l’histoire, Libyca (Archéologie-Epigraphie), T.VIII, Vol. I, Alger, 1960. St. Gsell, Les monuments antiques de l’Algérie, T.I, Paris, 1901. Id., Histoire ancienne de l’Afrique du Nord, 1908/1913 en huit volumes. Pour les Aurès, voir T.I, IV et VII. E. Masqueray, Formation des cités chez les populations sédentaires de l’Algérie (Kabyles du Djurdjura, Chaouia de l’Aouras, Beni Mzab), prés. F. Colonna, Aix-en-Provence, Edisud, 1983. P. Morizot, Archéologie aérienne de l’Aurès, éd. du C.T.H.S., 1997
تاريخ الإضافة : 08/09/2017
مضاف من طرف : nemours13
صاحب المقال : زهير بخوش : أستاذ مساعد (أ) جامعة ڨالمة
المصدر : inumiden.com