بقلم: مالك التريكي*
أسباب الغضب والثورة في عالمنا كثيرة. ولكن البشرية لا تغضب إلا في حالات قليلة. وعادة ما يكون غضبها عابرا غير ذي أثر فعلي في التغيير. ولهذا ألّف المقاوم الفرنسي ضد النازية والمنافح الدائم عن قضايا الحق والعدل ستيفان هيسل في أواخر عام 2010 كتيّبه (20 صفحة) الذي دعا فيه عموم الناس باعتبار كل واحد منهم فردا حرا مسؤولا إلى الثورة على أوضاع الظلم والاستعباد وإلى تجديد النضال من أجل القضية الكبرى: العدالة الاجتماعية. كان الكتيّب المذهل ببساطته وصدقه بعنوان فلتغضبوا! . وكانت المفاجأة للكاتب الذي كان قد ناهز آنذاك الثالثة والتسعين أن دعوته لاقت نجاحا عالميا نادر النظير حيث سرعان ما بيع من الكتيّب ثلاثة ملايين نسخة في الأصل الفرنسي ومليونا نسخة أخرى في ترجمات بأكثر من أربعين لغة! كان ستيفان هيسل من الدبلوماسيين الذين ساهموا في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948. وكانت الدعوة إلى الغضب على مظالم هذا العالم هي وصيته قبيل الرحيل (توفي عام 2013). وقد كانت استجابة ملايين الناس وخصوصا الشباب في مختلف أنحاء العالم لدعوته دليلا على أنه قد نادى فأسمع. ولقد أسمع لأنه نادى حيّا وقال حقا.
إذ إن مظاهرات الشباب في السنوات الماضية (بدءا من أيلول/سبتمبر 2011) ضد اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية ودكتاتورية النظام المالي العولمي (في إطار حركات مثل احتلال وول ستريت و احتلال لندن ومثيلاتهما في كندا وإسبانيا والبرازيل وهونغ كونغ) قد كانت من الشواهد على صحة موقف هيسل. كما أن تزامنها مع اندلاع الثورات الشعبية في تونس ومصر وليبيا وسوريا والبحرين واليمن عام 2011 قد كان دليلا على أن ساعة الغضب قد حانت وأن انعتاق شعوب العالم الثالث من التسلط السياسي يمكن أن يقترن في البلدان الغربية والمتقدمة بالنضال السلمي في سبيل الانعتاق من عبودية النظام الرأسمالي النيوليبرالي الذي يستخدم البشر وقودا ويهيئ الأسباب لحروب طاحنة قادمة سيشعل فتيلها التنازع حول الماء والهواء وسواهما من الموارد المتناقصة الآيلة إلى الاختفاء!
ولكن الغضب الحقيقي أي الغضب الفعال المفضي إلى التغيير والتحرير لم يقع. لماذا؟ لأن أفضح ما في الفضيحة وأخزى ما في الخزي هو التعوّد عليهما حسب المقولة الشهيرة لسيمون ديبوفوار. هذه إحدى أهم الحقائق التي ينبغي أخذها في الاعتبار عند محاولة تفسير استمرار تخبط عالمنا في كل أنواع الظلم واستمرار إنفاق نصيب هائل من الثروات على السلاح والمخدرات والقمار واللعب والتسلية والترفيه بينما يعيش مئات الملايين تحت خط الفقر ويعاني عشرات الملايين من الجوع أو نقص التغذية ويموت ملايين الأطفال من أمراض يمكن الوقاية منها. هذه من أهم الحقائق الإنسانية: إن أسوأ ما في السوء وشر ما في الشر هو التعود.
ويمتد قوس التعود المميت للقلب من القبول المؤسسي بمختلف أنواع الظلم والتفرقة والمحاباة سياسيا واجتماعيا إلى أبسط أنواع التعود اليومي في البيت على مشاهد الحروب والدمار وتقتيل الأطفال والقصف العشوائي التي نراها على التلفزيون. بحيث يصح القول بأن ليس هناك ما هو أسوأ من مشاهد التدمير التي يرتكبها سفاح دمشق وزبانيته ضد المدنيين في سوريا ويرتكبها أثرى الأثرياء ضد أفقر الفقراء في اليمن ويرتكبها الاحتلال الصهيوني ضد الصابرين الصامدين في فلسطين ليس هناك ما هو أسوأ من كل هذا إلا تعود الأمة الإسلامية عليه. وليس هناك ما هو أقهر من هذا القهر الذي تقاسيه الشعوب العربية سواء على أيدي الاحتلال الأجنبي (مثل حالة إسرائيل) أو الاحتلال الداخلي (مثل حالة سوريا) إلا تعود الإنسانية التلفزيونية عليه.
ولهذا وجب الآن السؤال: هل ستؤدي الغضبة التي اجتاحت أمريكا ثم امتدت إلى بقية البلدان الغربية مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا ضد العنصرية المؤسسية والعنف البوليسي إلى تغيير فعلي في الأوضاع الاجتماعية؟ صحيح أن هذه الغضبة التي أثارتها جريمة مقتل المواطن الأسود جورج فلويد في مينيابوليس غضبة لا سابق لها قوة وانتشارا بل إنها هبّة عارمة أخذت في إعادة توحيد الغرب الذي طالما عمل ترامب على تقسيمه مثلما قالت لوموند. ولكن يجدر مع ذلك التذكر بأن الرأي العام قد سبق له أن اهتز وغضب لجرائم عنف عنصري بوليسي كثيرة مثلما وقع على سبيل المثال في ليتل روك عام 1957 وفي لوس أنجلوس عامي 1965 و1992 وفي ميامي عام 1980 وفي تشارلوتسفيل عام 2017. ولكن الغضب ما لبث أن هدأ. ولهذا فإن دار البوليس على حالها بل إن كامل بلاد العنصرية على حالها لم يتغير فيها حتى اليوم شيء.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 14/06/2020
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : أخبار اليوم
المصدر : www.akhbarelyoum-dz.com