يقول ابن عطاء الله السكندري:”ربما دلَّهم الأدب على ترك الطلب، اعتماداً على قسمته واشتغالاً بذكره عن مسألته”.ينبغي أن تفهم كلمة “ربما” هنا على أنها دلالة على انهم-أي العلماء الربانيون-تمر بهم حالات، لكل منها تأثير متميز عليهم، وإيحاء مختلف إلى نفوسهم، فربما مرت بهم حالات أشعرتهم أن التسليم لقضاء الله وحكمه هو الأليق بالعبد اتجاه ربه، وربما اعترتهم حالات أخرى أشعرتهم أن إعلان الفقر والحاجة ومدّ يد الفاقة والمسكنة إلى الله هو الأكثر تعبيراً عن ذل العبودية له.ففي الحالة الأولى يجنحون إلى التسليم والصمت، مؤثرين المبالغة في التعبير عن الرضا بقضاء الله، وإنما سبيل ذلك أن يستسلموا، ويوطنوا أنفسهم لكل ما يقضي به الله في حقهم.والدعاء يخالف مقتضى هذه الحال التي يمرون بها.فمن ذلك موقف سيدنا إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، يوم وضع في المنجنيق ليقذف به في النار، فقد جاء جبريل يسأله: ألك حاجة (يعرض عليه خدمته بعد أن استأذن في ذلك ربه) فقال له إبراهيم أما إليك فلا!.. قال فسل ربك، فلم يزد على أن قال: حسبي الله ونعم الوكيل.من الواضح أن الذي منعه من الدعاء، خوفه من أن يكون دالاً على عدم رضاه التام بقضاء ربه في حقه، وهو يريد ألاَّ يغالب رضاه عن أي شيء.وربما تمثلت الحال التي تمنع صاحبها من الدعاء، في استحياء يهيمن على أحدهم من الله عز وجل، إذ يرى أن الله قد متعه بأنواع من النعم الكثيرة التي لا يستحقها، ويتأمل في أوضاعه وتقلباته، فيرى نفسه شديد التقصير في جنب الله، كثير التورط في الآثام، فيرى في الدعاء -والحالة هذه- سوء أدب مع الله وجراءة عليه بطلب مالا يستحق وتجاهلاً لواقعه الذي يعرِّضه لنقيض ما يريد ان يطلب، فيؤثر الصمت عندئذ على الدعاء، متعاملا مع عظيم استحيائه وخجله من الله.وتلك هي الحال التي هيمنت على الفضيل بن عياض رحمه الله، يوم عرفة، وهو يؤدي مع الحجيج مناسك الحج.قال إسحاق بن إبراهيم الطبري:وقفت مع الفضيل بن عياض في عرفات ، فلم أسمع من دعائه شيئاً، إلا أنه وضع يده اليمنى على خده، وطأطأ رأسه وبكى بكاءً خفيفاً، فلم يزل كذلك حتى أفاض الإمام، فرفع رأسه إلى السماء يقول: “واسوأتاه والله منك وإن غفرت، قالها ثلاث مرات.وواضح أن من شأن هذه الحال أن تقود صاحبها إلى ألوان عجيبة من ذكر الله تعالى بدلاً من الدعاء الذي يخجل من الله أن يشغل نفسه به، مع ما يرى من تقصيره وسوء حاله، فهو يؤكد في ذكر الله ومناجاته له، رضاه بحكمه واستسلامه لقهره، مؤكداً أن مراده مطوي في مراد الله وما قد قضى به في حقه، او تجده يندب سوء حاله مع ربه، ويشكو تقصيره في أداء حقوقه، ويعجب من ستر الله له، ومدّه أياه، مع ذلك كله، بما لا يستحقه من النعم والآلاء، فيناجي نفسه بعبارات التأنيب والتقريع، ويهيب بها أن ترعوي وأن تتدارك ما فرط..أما الحالة الثانية، فتستيقظ في مشاعر أصحابها كوامن الفاقة والحاجة والعجز، وهو مظهر من أهم مظاهر العبودية لله.ومن العسير جداً صمت من استيقظت في مشاعرهم هذه الكوامن، عن النطق بها والتعبير عنها.وإنما يكون التعبير عنها بالمسألة والدعاء.وهذا يعني أن دعاء الربانيين من عباد الله تعالى إنما هو كشف عن الهوية، وتعبير عن الفاقة، وتبرؤٌ من أوهام الحول والقوة، فهو غاية لهم وليس وسيلة يستخدمونها لغاية، كما قد مر بيانه من قبل عندما وضحت لك الفرق بين الدعاء والطلب.وآية ذلك أن أصحاب هذا الحال، لا يبارحون باب المولى عز وجل ولا ينقطعون عن التذلل له بالدعاء وعن الإلحاح بالمسألة والرجاء، حتى وإن استيقنوا تحقق ما يرجون وحصول ما يسألون، أو حتى لو أيقنوا أن دعائهم غير مجاب وأن رجاءهم بعيد المنال.ألا ترى أن المصطفى صلى الله عليه وسلم طمأن أصحابه وبشرهم بتأييد الله ونصره قبيل غزوة بدر، وكان يقول لهم، هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان من المشركين وهو يضع يده على الأرض، هاهنا وهاهنا فما تزحزح أحدهم في مقتله عن موضع يده.ومع ذلك فقد أمضى عليه الصلاة والسلام مسألة ليلة الجمعة، يجأر إلى الله بالدعاء أن يحقق له نصره الذي وعده به.فما الحاجة إلى الدعاء، وقد تلقى عليه الصلاة والسلام من ربه البشائر بالنصر؟.. إن الحاجة إلى الدعاء تنبثق من ضرورة إعلان العبد عن حاجته إلى مولاه، حتى ولو تكفل له بالرعاية والعناية والتوفيق. إذ إن حاجة العبد إلى ربه ذاتية في كل لحظة وليست عرضية بحيث تظهر في حالة الحرمان وتختفي في حالة الطمأنينة والعطاء.وانظر في هذا الحالة الأخرى التي كانت تهيمن على سيدنا إبراهيم عليه السلام..وهو يسأل الله في تذلل وانكسار أن يزيده قربا من رحمته وفضله وأن يحشره يوم القيامة مع الفائزين المقربين، ألا ترى إلى هذا الدعاء الذي ينقله البيان الإلهي: “ربِّ هبْ لي حُكْماً وأَلْحِقنِي بالصالحينَ، واجعَلْ لِي لِسانَ صدقٍ في الآخرِينَ، واجعلْنِي مِنْ ورثِةِ جنَّةِ النعيمِ، واغفِر لأبِي إنَّهُ كَانَ مِنَ الضّالّين، ولا تخْزِنِي يوم يُبعثُونَ، يومَ لا ينفَعُ مالٌ ولا بَنُونَ، إلاَّ من أتَى اللهَ بقلبٍ سَليمٍ”(الشعراء)..ولقد كان عمر بن الخطاب كثير الدعاء فيما يرى أن الدعاء يقربه إلى الله ويكشف عن فاقته وعجزه واحتياجه إلى مغفرة الله وعفوه، ولكنه لما طعن الطعنة التي أودت بحياته، قيل له:ألا ندعو لك الطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، واستسلم لقضاء الله وحكمه، دون أن يسأله آنذاك العافية والشفاء..المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 03/09/2014
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : الفجر
المصدر : www.al-fadjr.com