الجزائر

الضحايا يتنازلون عن حقوقهم خوفا من فك الرابطة الزوجية قضايا الإهمال العائلي تغزو أروقة المحاكم



تعبر قضايا الإهمال العائلي المطروحة أمام المحاكم، اليوم، عن الواقع الرهيب  الذي تعيشه الكثير من العائلات جراء ويلات الإهمال الذي تلقاه، سواء من الزوج أو الزوجة وما يفقده كل طرف من حقوق.
 برزت قضايا الإهمال العائلي على الساحة القانونية بعد أن ظل الغموض يكتنفها لسنوات طويلة، ففي الكثير من الحالات يتنازل ضحايا الإهمال عن حقهم في المتابعة القضائية ملتزمين بعادات المجتمع الجزائري وخوفا من فك الرابطة الزوجية بصفة نهائية بعد طرح القضية أمام المحاكم.
وتنص المادة 330 على معاقبة كل من أهمل عائلته لمدة تفوق الشهرين ولم ينفق عليها، حيث يعتبر الحقوقيون أن الزوج أو الزوجة ضحايا الإهمال العائلي معرضون لفقدان حقوقهم فيما يتعلق الحقوق الزوجية التي تحددها الشريعة الإسلامية.
وحسب بعض القانونيين فإن قضايا الإهمال الأسري يستعملها بعض المواطنين كذريعة للحصول على الطلاق بعد تمسك بعض الأطراف بالرابطة الزوجية، لذا أقر المشرع الجزائري بوجوب إثبات حالات الإهمال العائلي عن طريق معاينة المحضر القضائي وتحريره لمحضر رسمي ومن ثمّ يستطيع الضحية تقديم شكوى أمام وكيل الجمهورية وتقديم شهود يؤكدون الحالة أو ينفونها ثم المطالبة بالتعويض عن الضرر في مدة محددة وليس بعد مرور سنوات على حالة الإهمال.

قضية مجدولة منذ 10 سنوات
ومن القضايا التي تسلط الضوء على الإهمال العائلي، قضية بقيت أكثر 10 سنوات تراوح  أروقة المحاكم، حيث صدرت فيها عدة أحكام قضائية غيابية ضد الزوج المتهم من قبل زوجته وأولاده بتركه البيت العائلي دون أن يحدد لهم وجهتهم.
وبعد مرور السنين، ألقي القبض على الشيخ وتم تقديمه إلى مصالح الأمن بمجلس قضاء العاصمة من أجل استنفاد الأمر بالقبض الصادر ضده، ليتم إلقاء القبض عليه وتقديمه إلى المحاكمة مجددا.
وفي هذا الصدد تروي المحامية آزغوتي جميلة بن حقو، التي عايشت القضية صدفة، أنها تأثرت كثيرا بالقضية واقشعر لها بدنها لما شاهدت شيخا في 64 من عمره مكبل اليدين بعد إلقاء القبض عليه نتيجة إصدار العديد من الأحكام الغيابية ضده وأوامر القبض في حقه بتهمة الإهمال العائلي، لذا قررت التأسيس في حقه تلقائيا والتمست من القاضي الإفراج عنه إلى غاية مثوله أمام المحكمة.
وتضيف المتحدثة أنه بعد موافقة القاضي على طلبي، شرع الشيخ في تسوية الأوضاع وديا مع زوجته، خاصة لما تدخل أولاده الذين استسمحوا والدتهم للصفح عنه، مع العلم أن الصفح يبطل المتابعة القضائية في مثل هذه القضايا، ثم توجهت الوالدة إلى المحضر القضائي لتحرير محضر تنازلت فيه عن جميع حقوقها المادية والتعويضات التي فاقت 20 مليون سنتيم، ثم قُدم ذلك المحضر أمام المحكمة التي أقرت بتبرئته من التهمة بعد تنازل الضحية عن حقوقها.

قصة الفنلندية!
وطالت فصول قضايا الإهمال العائلي الرعايا الأجانب، وخير مثال على ذلك النزاع القائم منذ سنة 2008 بين رعية فنلندية متزوجة بشاب جزائري، اتهمها بالإهمال العائلي وهروبها خارج الوطن تاركة وراءها ابنيها، ولا تزال المعركة القانونية مطروحة أمام محكمة الحراش للحسم فيها.
وبلغ عدد القضايا المطروحة ضد الرعية الفنلدية المتهمة من قبل زوجها 10 قضايا تم الفصل فيها أمام محكمة الحراش، آخرها اتهامها بإهمال طفليها بعد أن سافرت إلى فنلندا وتركت عنده الأطفال دون أن تسأل عنهم.
هذه القضية جعلت السلطات الجزائرية والفنلندية في أزمة دبلوماسية خاصة بعد عودة الرعية الأجنبية وتهريب الطفلين بعيدا عن أبيهما إلى فنلندا حيث أدانتها محكمة الحراش بعقوبة عامين حبساً نافذاً وغرامة 5 آلاف دينار عن جنحة عدم تسليم طفلين وتهريبهما إلى الخارج.
بدأت العلاقة الزوجية تتدهور سنة 2007، عندما قرر الشاب العودة إلى أرض الوطن رفقة زوجته الفنلندية والاستقرار في الجزائر بعد إقامتهما بفنلندا مدة 10 سنوات، لكن المتهمة رفضت العيش في الجزائر فعاودت الرحيل إلى فنلندا تاركة وراءها ابنتها صاحبة الخمس سنوات وابنها الرضيع لأكثر من سنة، فرفع الزوج ضدها قضية تتعلق بالإهمال العائلي. ثم عادت المتهمة إلى الجزائر لتسوية وضعيتها القانونية واغتنمت الفرصة لتهريب ولديها إلى فنلندا، ومنذ ذلك التاريخ والضحية يطالب بفتح تحقيق على مستوى وزارة الخارجية والقنصلية الجزائرية بفنلندا لمعرفة من وراء ترحيل الطفلين بطريقة غير قانونية إلى الخارج.

شرطي في قفص الاتهام
كما عالجت محكمة بئر مراد رايس قضية فريدة من نوعها، تتعلق بتخلي شرطي، رب عائلة، عن واجباته العائلية تجاه زوجته وابنته لمدة تفوق 7 سنوات مباشرة بعد سفره إلى فرنسا، كما واصل تخليه عن العائلة حتى بعد تسوية وضعيته بفرنسا وزيارة للجزائر لأكثر من مناسبة.
وخلال عودته إلى الجزائر تم القبض عليه بمطار هواري بومدين بعد صدور حكم يدينه بتهمة الإهمال العائلي، حيث تم تحويله إلى المحاكمة التي أراد فيها التنصل من المسؤولية، معتبرا أن سنوات العشرية السوداء جعلته يهرب من تهديدات الإرهابيين ومنذ ذلك التاريخ وأحواله تسوء ولم يستطع الرجوع إلى حضن عائلته.
وبعد صدور حكم يؤكد إهماله لعائلته، رفعت الزوجة ضده قضية للحصول على الطلاق، وبعدها تراجع عن تصريحاته مطالبا إياها بالرجوع إلى بيت الزوجية وهكذا عادت العلاقة الزوجية إلى مجراها الطبيعي وأثمرت بإنجاب ابنة ثانية.   

رأي خبير قانوني

المحامية جميلة إزغوتي:
''قانون الأسرة لا ينصف ضحايا الإهمال العائلي''

 اعتبرت المحامية إزغوتي جميلة بن حقو، أن المعركة التي يخوضها الأزواج أو الأبناء ضد الإهمال العائلي أمام المحاكم معركة خاسرة، مضيفة أن قانون الأسرة لا يوفر علاجا قانونيا شافيا لهذه الوضعيات ما يبقي ضحايا الإهمال يتخبطون مدة طويلة بين أروقة المحاكم لنيل قدر قليل من التعويض المالي.
قضايا الإهمال العائلي في ارتفاع في محاكمنا، لماذا؟
- أصبحت المرأة في عصرنا تبحث عن حقوقها في كل مكان حتى داخل الأسرة ذاتها، وهذا يعود لتنامي درجة الوعي عبر اللجوء إلى المحاكم وهذا دليل على أن المرأة أصبحت مستقلة عن سيطرة الرجل نوعا ما.
في مثل هذا النوع من القضايا، نحن نتحدث عن المرأة والطفل لأنهما الحلقة الضعيفة في الأسرة مقارنة مع الرجل أو الزوج الذي وبحكم العادات هو من يترك بيت الزوجية فتضطر المرأة لرفع شكوى الإهمال ضده واللجوء إلى العدالة لإثناء الرجل عن التراجع عن موقفه تجاه أسرته سواء بالعودة إلى أحضانها أو للحصول على تعويضات مادية ومعنوية.
وما رأيك في تعامل القضاء مع قضايا الإهمال؟
- نسمع عن قانون الأسرة بأنه يحفظ كرامة المرأة والأبناء، غير أن الواقع يتنافى مع هذا الطرح لأن رحلة الحصول على نفقة الإهمال العائلي ليست متناسبة مع الأضرار التي تلحق بضحاياه، لأنها باختصار ضئيلة جدا مقارنة مع الأضرار التي تلحق بهم جراء الإهمال، فهو لا يضمن لها أدنى حق كالحصول على مسكن.
وكيف يتم التعامل قانونيا مع القضايا؟
- المادة 330 من قانون العقوبات تحدد حقوق ضحايا الإهمال وتعاقب بالحبس من شهرين إلى سنة وبغرامة من 25 ألف إلى 100 ألف عن أحد الوالدين الذي يترك مقر أسرته لمدة تتجاوز الشهرين ويتخلى عن كافة التزاماته الأدبية أو المادية المترتبة عن السلطة الأبوية أو الوصاية القانونية وذلك بغير سبب جدي، ولا تنقطع مدة الشهرين إلا بعد العودة إلى مقر الأسرة في وضع ينبئ بالرغبة في استئناف الحياة العائلية بصفة نهائية. كما تعاقب المادة الزوج الذي يتخلى عمدا عن زوجته لمدة تتجاوز شهرين مع علمه بأنها حامل وذلك لغير سبب مقنع. كما تعاقب نفس المادة أحد الوالدين الذي يعرض صحة أولاده الواحد أو أكثر منهم أو يعرض أمنهم أو خلقهم لخطر جسيم، بأن يسيء معاملتهم أو يكون مثلا سيئا لهم لاعتياده على السكر أو سوء السلوك أو بأن يهمل رعايتهم أو لا يقوم بالإنفاق الضروري عليهم وذلك سواء أكان قد قضى بإسقاط صفة الأبوية عليهم أو لم يقض بإسقاطها.
هل اللجوء للعدالة كفيل بالحصول على هذه الحقوق المشروعة؟
- يواجه ضحايا الإهمال العائلي عراقيل في سبيل الحصول على الحقوق، إذ لا يمكن للضحية رفع شكوى في هذا الصدد إلا بعد مرور شهرين من الإهمال وإثباته، ناهيك عن التكاليف التي يدفعها المتقاضي كي يحصل على تعويضات مادية قد لا تحفظ كرامته مقارنة مع وضعه المعيشي. والضحية حتى يحصل عليها يجب عليه توكيل محضر قضائي لتبليغ الأحكام القضائية وانتظار الآجال القانونية للتسديد وفي حال الامتناع عن التسديد، يرفع شكوى أمام المحكمة لاستدعاء المعني مباشرة، بتهمة عدم تسديد نفقة الإهمال وإذا امتنع للمرة الثانية يحكم ضده بعقوبة سالبة للحرية، وبهذا الإجراء بإمكان الشخص المتابع بالإهمال عرقلة تنفيذها عليه لسنوات دون أن يدفع سنتيما واحدا، بعكس ما كان معمولا به في السابق بالإيداع مباشرة في جلسة المحاكمة.

قصة واقعية

ياسمين دفعت 20 سنة من عمرها ثمنا لإهمال والدها

 بدأت معاناة الشابة ياسمين بعد انفصال والديها عن بعضهما البعض وتنصل الوالد من جميع واجباته تجاهها، ابتداء من رفضه دفع النفقة مدة 20 سنة كاملة ووصولا إلى الإخلال بقرار توفير مسكن يأويها رفقة والدتها.
تقول ياسمين إنها عاشت الأمرين بعد طلاق والدتها ورفض عائلة الوالدة التكفل بها، ما أدى بأمها للتضحية واختيار تحمل مسؤوليتها بمفردها، حيث شرعت في التنقل لكراء بيوت متهرئة بالأحياء القصديرية بضواحي منطقتي الحراش وبومعطي.
وتضيف أن متاعب الترحال المتواصل والكراء لم تدم طويلا، فعجز الوالدة عن العمل بعد 25 سنة من العمل بعد إصابتها بأمراض مزمنة، جعلها تعجز عن الكراء، ما أدى لفراقها عن والدتها التي بقيت تتنقل بين صديقاتها وحتى المحسنين، فيما اضطرت للتوقف عن الدراسة والمبيت في البيوت التي تخدمها.
وأمام هذا المنعرج الخطير في حياتها، لم تتمكن ياسمين من استكمال مشوارها الدراسي بسبب حالة عدم الاستقرار العائلي، ''لذا قررت التوقف عن الدراسة والعمل كخادمة في بيوت بثمن زهيد لا يكفي لتحقيق حلم والدتي المريضة في سكن قار''. وبعيون دامعة تروي عجزها عن مقاضاة الوالد الذي تنصل من تحمل المسؤولية تجاهها ورغم لجوئها إلى العدالة، ''إلا أن الحكم الذي صدر ضده لدفع النفقة المترتبة عليه منذ ولادتي، لم يعرف التطبيق لحد اليوم''، لأنها عجزت عن دفع تكاليف التقاضي وأعباء المحضر القضائي لإرغام والدها على تطبيق حكم العدالة نظرا لصعوبة وضعها المادي.

رأي علم الاجتماع

 الأخصائي هاشمي مقراني
''أزمة قيم سبب تفشي الإهمال العائلي''

 أكد الأستاذ هاشمي مقراني، أخصائي في علم الاجتماع، أن الإهمال العائلي ناتج عن أزمة في القيم تغلغلت في كافة المِكونات المجتمعية بما فيها العائلة، وأصبح الأزواج يتخلون عن المسؤولية إزاء ثلاثة أطراف بدءا بالزوجين تجاه بعضهما البعض ووصولا إلى استقالة الزوجين من رعاية الأطفال ومن المجتمع ككل. وأوضح مقراني بأن هذه الظاهرة تفشت في المجتمع بسبب ابتعاد الأفراد عن القيم الاجتماعية النابعة من الثقافة الإسلامية التي تحافظ على ترابط الأسرة العدالة، وتكرس مبدأ الاحترام المتبادل وتربية الأطفال. وعن مدى تأثير الإهمال الأسري على نفسية الأطفال، أشار مقراني إلى تحوله إلى فريسة سهلة للانحرافات والأخطار المختلفة. وحسبه، فإن الإهمال الأسري بكل أصنافه يتسبب في ميل هؤلاء الأطفال إلى ارتكاب سلوكيات سلبية بحكم المراحل الحساسة التي مروا بها من مشاهد العنف والإهمال والافتقار للشعور بالتقدير والاعتراف للأولياء. ومن التداعيات أيضا، يذكر مقراني الشعور بانعدام المسؤولية عند الأولياء الذي يورثونه لأبنائهم، ما ينعكس سلبا على علاقاتهم بالآخرين على شاكلة عدم احترام الغير والسقوط في الاستهتار، ما يعدّهم لارتكاب العنف والإجرام.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)