على قدر الفرح الغامر الذي ظفرت به وقد رأيت العدد الأخير من “الفجر الثقافي” يحفل بالشعر في يومه العالمي، كان حظي من الأسى العارم الذي قلب حلاوة الاحتفاء مرارة إزاء المغامرة التي تورط فها سؤال العدد، لاسيما وقد انتهى إلى هذا العنوان القاسي “الجزائر تملك شعراء لكن مع وقف التنفيذ” وقبل بذل الوسع في التعقيب المتسائل على ما ورد في الملحق أراني مع جلد الذات من مبدأ التساؤل الناقد المفكك للأعطاب، أما جلد الذات حد الإغتصاب فهو صنيعة العاجز المهزوم اليائس المريض بالدونية والمازوشية النازفة بطعنات الغباء، ومنذ دهر من الإبداع قال بلزاك “لا تبدأ حياتك باغتصاب “.. من هنا أتأمل أن نباشر نقاشا عميقا وهادئا في منجزنا الشعري.
أدرك علم اليقين أنني سأقوم بعمل قد يحرك كثيرا من الكسالى ليخبطوا في الأمر خبط عشواء على أرصفة المقاهي، فمازال السواد الأعظم ـ في المشهد السياسي والثقافي ـ يناقش ما يقرأ على طاولات الكؤوس دون أن يكتب ما يراه، خاصة إذا كانت رؤيته ناقدة أو رافضة خشية أن تسوء علاقات هي في الأصل مبنية على كثير من السوء والتـنافق المتبادل.. على كل تقضي الشفوية علينا أحكامها المتخلفة ونسير على مهالكها إلى حتفنا ببهجة غريبة تبعث على الضحك المجنون. في البدء، لا أفهم ماذا يمثل المجمع الشعري المسمى “تجمع شعراء بلا حدود” الذي غيب الأسماء الجزائرية عن قوائمه، هل بلغ الهوان بنا هذا الحد، دائما ننتظر التفاتة الآخر لنا كاليتامى! منذ سنوات أيضا وضع المشارقة موسوعة للروائيين العرب، وكان التمثيل الجزائري ضعيفا إن لم يكن مغيبا لا أذكر. هل غياب الأسماء الجزائرية عن قائمة “بلا حدود” كارثة تجعلنا نقيم المآتم للشعرية الجزائرية، ونعلن الحداد الأدبي.. يبدو أن معالجة الملف بناء على هذا التصنيف، هو الذي أخلط الأوراق وجعل السؤال ملغما بالأخطاء. عودا على بدء، ولنبدأ لتصوير الجو العام للمقاربة التراجيدية للشعرية الجزائرية في اليوم العالمي للشعر من العناوين الكبرى للملف، فنقرأ “الجزائر تملك شعراء لكن مع وقف التنفيذ”، “جواد بلا فارس”، “موت إكلينيكي للشعر الجزائري”، “أبناء بن بوزيد لن يزيدوا الشعر شاعرا”.. ويلاحظ معي القارىء الجرعة العالية لمادة اليأس التي تتراقص في لغة العناوين . “ لا يأس مع الحياة “ ولتكن البداية مع الشاعر الصديق أحمد عبد الكريم الذي يصدمنا بعنوانه “موت إكلينيكي للشعر الجزائري”، وفي جريدة أخرى يقول “الشعر الجزائري دخل حالة الغيبوبة”. ويعترف الصديق أن نظرته مشوبة بالتشاؤم، وهو إذ لا ينفي وجود مواهب شعرية فردية تشكل الاستثناء وهي في نظره لا تكفي للقول “بوجود شعر جزائري الملامح”، لا أفهم ماذا يقصد أحمد بالملامح الجزائرية.. هل هناك شعر سوري، وشعر تونسي، وشعر هندي؟ ثم كيف يمكن القول إن المشروع الشعري توقف عند جيل الثمانينيات الذين استقال أغلبهم، وهل المسألة بالكم أم بالكيف. تاريخ الشعر كله يعرف الصديق أحمد أنه تاريخ استثناءات، لا تاريخ كرنفالات، والرديئون الذين تحدث عنهم الصديق هم موجودون في كل زمان ومكان، إذا فعلام تعميم النظرة السوداوية على المشهد وإحالته على المقبرة، وهي أحكام قيمية وقاسية حد العدمية.. فليس بجرة قلم يا صديقي نطبق السماء على الأرض ولا نرى في الوجود شيئا جميلا. البحث في فائدة الصوت الشعري الجزائري نقل لنا شهادة الشاعرة ربيعة جلطي التي ترى “الجزائر غير بعيدة عن الوصول إلى اكتساب شاعر يكون بحجم هؤلاء” ـ تقصد قباني ودرويش ـ، وتنقل لنا شهادة الشاعر سليمان جوادي الذي يقول “الجزائر تمتلك صوتا شعريا قويا مكنه من أن يكون صوت الجزائر المغرد في مختلف المنابر الشعرية العربية الأخرى”، ويتعلق الأمر بالشاعر عمر أزراج. فهل مع هذه الشهادات ما يبرر عنونة المقال بالقول “الجزائر تملك شعراء لكن مع وقف التنفيذ”. وصدق جوادي فقد أخبرني الشاعر الصديق عمر أزراج أنه مدعو لإحياء مجموعة من الأمسيات الشعرية في فرنسا مع توقيع صدور ترجمة لأشعاره ،ـ وعلى ذكر أزراج فإنه قدم رؤية هادئة و واعية برهانات الشعر الجزائري ـ أسماء شعرية جزائرية تحصد سنويا جوائز مهمة في الوطن العربي، حضور جزائري مشرف في جائزة شاعر المليون، دواوين فاخرة صدرت مكتوبة ومسموعة، أسماء لم تكن معروفة برزت بفضل جائزة رئيس الجمهورية لإبداع الشباب ،أليس في هذا ما يدعو إلى قليل من الهدوء وإلى قليل من الأمل. ومع ذلك علينا أن نجتهد مثلا في أن يكون حضور الشعراء خارج الوطن أقوى ضمن الأسابيع الثقافية على الأقل وفي مراكز الجزائرية الثقافية في الخارج. الشعر وسؤال الشكل المزمن ما تزال المقاربة الشكلية للشعر العائق الأكبر، دون الغوص في ماهية الشعر الحقة التي ما يزال سؤالها حيا ومستفزا. في هذا المضمار نقرأ في ركن الصديق الشاعر رشدي رضوان “جواد بلا فارس”، إذ يقول “علاقة الشاعر بالقصيدة مثل علاقة الفارس بجواده. الجواد هو اللغة المدوزنة على وتر العروض”. وإذا كان الصديق قد وفق في التشبيه الجميل فأظنه وقع في خطأ التصور الشكلاني لمفهوم الشعر الذي يكون منطلقا لمحاكمة التجارب الأدبية التي تصل حد نزع صفة الشاعر عن زيد ومنحها لعمرو، وهو تصور ما زال يورطنا في نقاشات لا طائل منها أبدا بل هي صداعنا المزمن. كتب المفكر والناقد الأشهر الدكتور غالي شكري قبل أربعين عاما في كتابه “شعرنا الحديث إلى أين” مايلي: “من أهم معالم الرؤيا الحديثة في الشعر هو كونها تجعل الفروق بين كل شاعر وآخر لا تمنح الفرصة للجمع بينهما على مائدة واحدة، وإذا كان هناك ما يشبه الاتفاق على المصادرة القائلة بأن الوزن الموروث ليس معيارا وحيدا للشعر، فإن إحلال كلمة “النثر” مكان الوزن لا تعبر إلا عن رد الفعل لا عن الفعل الذي يصنعه الشعراء الحديثون، فهي ـ قصيدة النثر ـ تقف في الطرف المقابل لما يدعونه بقصيدة النظم، ولكن دعاة هذه وتلك يلتقون في الواقع عند حدود المفهوم الكلاسيكي للشعر، بمعنى آخر المفهوم الشكلي”. في انتظار علي ملاحي ولا بأس أن أستفهم من الصديق والشاعر الناقد الجزائري الدكتور علي ملاحي الذي قارب الشعرية الجزائرية، مؤخرا، عبر استضافته في إحدى الجرائد، وكان محقا في كثير مما ذهب إليه، بيد أنه لم يرحم بسيف الحجاج أعناق الجيل الجديد من الشعراء خاصة، إذ يصف أغلب النتاج الشعري منذ سنة 2000 بـ”الهرطقات” ثم يدعو “كفانا عبثا بالكتابة الشعرية”. والدكتور يعلم أن النقد الجزائري أعطانا عمره في المشهد ليدخل أدراج الجامعة وجله يقارب الأسماء التقليدية والمكرسة، ثم إن الضعف موجودة في كل الأجيال. ولعل ما يؤكد هذا أنه أدان تجربة الجيل السبعيني الذي أغرقه الخطاب السياسي المؤدلج، وإذا كان لما يسمى بشعر الومضة حضور وجمهور فلم يصفه الدكتور بـ “الهرطقة”. وهب أن كثيرا منه خواء، هل يجب أن نحتكم لنمط واحد في الكتابة ؟ وهل يجب على الشاعر الكلاسيكي الذي يعشق العمودي أن يرفض التفعيلي والحر؟ والتاريخ - يدرك صديقي ملاحي - لا يحتفظ إلا بالقامات أما الظلال فمآلها النسيان. ولعل الدكتور يدرك أن المنجز الشعري العربي والعالمي بصدد خوض فتوحات عميقة في بنية الكتابة والتجربة الشعرية، أما نحن فما زلنا نصادر بعضنا بعضا وفق منطق الشكلانية دون احترام حق الإختلاف في الحساسيات والتجارب وحق الثورة على السائد والراهن والقديم. ومع ذلك فقد وضع الصديق علي ملاحي يده على كثير من جراح الشعر في الجزائر، على أمل أن يشرع في وضع دراسة في الموضوع، فنحن أحوج إليها من أي وقت آخر مع أهمية أن يطالعنا بنتاجه الشعري الذي نشأنا عليه. “أمة بلا شعر.. أمة بلا روح” أجدني بعد هذه المناقشة أمام ضرورة الإعتراف بأن واقع الشعرية الجزائرية في عمومه رجراج، لا شك في ذلك، يحوم حول التخلف يوشك أن يقع فيه على كافة المستويات بداية بالمنجز الشعري ـ ما يزال الغالب الأعم من شعرائنا في حالة ارتهان للتجارب الكلاسيكية دون انفتاح على الكون الشعري العربي والعالمي ـ وانتهاء بإجهاض قنوات التلقي ـ في الجزائر لا قيمة للمتلقي خارج السلع الأكثر استهلاكا كالنقال وحفاظات الأطفال ـ وكذا غياب آلة صناعة الأسماء الجادة منها والمغشوشة على السواء . والحديث عن نشر الشعر حديث ذو شجون، ولو لم تكن نعمة مشروع رئيس الجمهورية بطبع ألف عنوان منذ سنوات لما التفت الناشرون لشيء يدعى الشعر إلا فيما ندر، هذا صحيح، ولكن هل علينا أن ننظر للشعرية الجزائرية من هذه الزاوية المعتمة فقط.. أليس ثمة بقع ضوء في هذا الظلام ، ثم إن النجوم لا تشرق إلا ليلا، من هذا المنطلق الأخير أحب أن نباشر حملة وطنية لجلد الذات ولكن برؤية عالمة واعية و بأعناق تشرئب للنجوم المشرقات، نجلد ذاتنا ونلتفت للنماذج الصالحة فينا، لأننا نؤمن على الأقل بما قاله شاعر المكسيك أوكتافيو باث: “ أمة بلا شعر أمة بلا روح، وأمة بلا نقد أمة ميتة”. “وطني.. أيها الجرس المعلق في فمي” إنه ليبدو أن الإجماع الوحيد الراسخ في التحقق والاطراد هو الرضا بالإختلاف روحا تجدد الحياة، اختلاف يكون نبعا يفيض بالحوار وينضح بالمساءلة، ولم لا المساجلة التي تفكك أغلال النمطية والاستسهال الكسول في مقاربة صداعنا السياسي والاجتماعي والثقافي، وإن لم نحاول الخروج من هذه الدائرة البهلوانية فإنا سنظل غرقى في مستنقع مجانية الأحكام نطلقها على عواهنها وكيفما اتفق. ويبدو أنه كلما حاول أحدهم ليؤسس رؤاه ضمن هذه الدائرة المتداعية، فإنه سيقع أسير التهاوي في منطق الإنفعال الطائش، لا الفعل الرصين، راكبا بحر التبرير لا التحليل ولا حتى الشرح، ومن ثمة يقف عاريا محزونا يعض بنان الندم وبين يديه سياط الدنيا ليجلد ذاته على صليب المازوشية الرعناء . في الجزائر نحن أمام مفارقة كريهة مقيتة شمطاء، إما أننا نتحدث والأنا منتفخ، متعال، متغطرس، متورم، واهم، مكابر، لأنه صانع ثورة لم تحدث في التاريخ، ومن ثمة فهو ليس بحاجة ليأخذ الدروس من أحد، وإما نتحدث والأنا غارق في وحل الهزيمة واليأس والتطرف والحيرة والشك والرعب فيهوي دون حراك في مقبرة البكاء و القذف في كل الجهات. هكذا تغدو الأنا المتغطرسة المتورمة تدميرية بلا منازع، إذا “ثمة خراب ضروري” كما قال رامبو، ولكن هو الخراب الذي يدفع نحو إعادة قراءة الذات وجلدها إذا توجب للخروج من عنق اليأس، وحتى لا نردد مع الماغوط “وطني.. أيها الجرس المعلق في فمي”. وبناء على ما سبق، فإن الفضيلة هي أن نعتدل في مذهب الوسطية بعيدا عن اجتراح قضايانا كحاطب الليل، فالمطلوب ابتداء هو تعزيز المقاربات الناهدة إلى خصب المعالجة البصيرة على هدى من العلم والهدوء. “ مزيد من النور” نحن “نربي الأمل” يقول أناتول فرانس: “لولا أحلام الفلاسفة في الأزمنة الماضية لكان الناس يعيشون إلى الآن كما كانوا يعيشون قديما عراة أشقياء في الكهوف “فلنحلم على الأقل، ختاما مادمنا نلهج بسيرة الشعر لا بأس أن نذكر آخر ما قاله شاعر ألمانيا الكبير غوته وهو يفارق الحياة: “مزيد من النور”، لأننا كما قال درويش “نربي الأمل”. سعيد حمودي
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 29/03/2010
مضاف من طرف : sofiane
المصدر : www.al-fadjr.com