الجزائر

الشاذلي بن جديد في ذكراه الأولى... لابد للتاريخ أن يعترف .. فكرة تجديد النظام السياسي راودت الرئيس الراحل بداية الثمانينات



الشاذلي بن جديد في ذكراه الأولى... لابد للتاريخ أن يعترف .. فكرة تجديد النظام السياسي راودت الرئيس الراحل بداية الثمانينات

أثناء زيارته لولاية الجلفةيوافق يوم السادس من شهر أكتوبر 2013 الذكرى الأولى لرحيل ثالث رئيس لجزائر الاستقلال، حيث فجعت الجزائر في هذا اليوم في واحد من أعز رجالاتها الذين أحبوها وأخلصوا لها.
الرئيس الشاذلي .. عهد جديد
ولد الشاذلي بن جديد في 14 أفريل 1929 بمنطقة "بوثلجة" بولاية الطارف أقصى شرق الجزائر، سلك المسار العسكري والتحق بالكفاح المسلح ضد المستعمر الفرنسي في سنة 1955 وكان في جيش التحرير الوطني بالولاية الثانية بقسنطينة، وفي سنة 1963 عين قائدا للناحية العسكرية الخامسة وفي جوان 1964 قائدا للناحية العسكرية الثانية ( بمنطقة وهران) وبقي على رأسها لمدة 15 سنة .
كان الشاذلي بن جديد عضوا في مجلس الثورة المنبثق عن الانقلاب العسكري في 19 جوان 1965، ورقي إلى رتبة عقيد في سنة 1969، وبعد وفاة هواري بومدين في ديسمبر 1978 اختير العقيد الشاذلي بن جديد -مسؤول ناحية الغرب العسكرية- خليفة له من قبل الجيش. هذا المنصب الذي اعتبره " مسؤولية ثقيلة وشرف عظيم في آن واحد .." انتهج خلال حكمه سياسة براغماتية إصلاحية وكرس الانفتاح على المجتمع المدني والعالم الغربي..
كان يؤكد على ضرورة التواصل إلى وضع خريطة وطنية للتنمية حسب احتياجات كل جهة واعتبار الثروات المعدنية المتواجدة بالجزائر أساس في وضع وتسجيل المشاريع الإنمائية فقال .." لابد أن يكون القطاع الصناعي مكملا للفلاحة وليس عبئا عليه.." وعن الإستمرارية الثورية قال ".. انها ليست شعارات وإنما هي سلوك وعلينا أن نعمل على إيجاد الأسس الموضوعية لترجمة الشعار إلى واقع لاسيما في أوساط الشباب الذي يشكل طاقة حية وقوّة دافعة لعجلة التنمية.." وبعد أحداث أكتوبر 88 وضع الشاذلي بن جديد حدا لهيمنة الحزب الواحد وقام بتنظيم استفتاء على دستور جديد في 23 فيفري 1989، ليفتح الباب أمام التعددية السياسية والحزبية، لكنه اعتزل فيما بعد وقدم استقالته في 11 جانفي 1992.
أحداث أكتوبر 88.. من العنف إلى التفكير الرشيد
أحداث مروعة لم تعرف البلاد مثيلا لها منذ الاستقلال، أخذت أحداثها منحى سريعا لم يكن أحد يتوقع ما ستؤول إليه، بدأت بتذمر عمال مركب العربات الصناعية بالرويبة قرب العاصمة وإضرابهم عن العمل، وكذلك إضراب عمال بعض القطاعات من بينها قطاع البريد، وتوقف طلبة الثانويات عن الدراسة وخروجهم إلى الشارع يوم 05 أكتوبر لتبدأ ثورة الشارع بأتمّ معنى الكلمة، أعلن بعدها مباشرة عن حالة الحصار العسكري وفرض نظام حظر التجول، لكن الغليان لم يهدأ في الشارع إلا بعد إلقاء الرئيس الراحل " الشاذلي بن جديد" في العاشر من أكتوبر خطابه المباشر للشعب عبر قنوات الإذاعة والتلفزيون وهو خطاب كان ينتظر بترقب وحذر شديدين، وفيه أعلن الرئيس جملة من الإصلاحات السياسية القادمة فضلا عن الإجراءات العاجلة لتحسين وضعية السوق الداخلية ودعم القدرة الشرائية للفئات الاجتماعية ذات الدخل المتواضع.
الخطاب لقى صدى عميقا في الأوساط الشعبية حيث خرجت في الليلة نفسها وفي اليوم الموالي جموع المواطنين وهم ينادون " الجيش والشعب معاك يا الشاذلي"، وبالفعل فإنّ أيام أكتوبر الدامية كشفت هشاشة النظام السياسي والأمني، إذ أصيبت هياكل الحزب والحكومة وقوات الأمن بالشلل التام أمام تحرك الشباب المتظاهرين، ولم يبق في الساحة سوى الشعب في القاعدة والرئيس في القمة يدعمه الشعب ولا توجد قناة بين القمة والقاعدة إلا قناة الإعلام التي حاولت قدر المستطاع تأمين الاتصال بين الرئيس والشعب وتهدئة الوضع الأمني ومواجهة حملة الإعلام الغربي وفي مقدمته الإعلام الفرنسي.
أدرك الرئيس بن جديد بسرعة الواقع العاري للساحة السياسية واكتشف مواقع القوة والضعف في البنيان السياسي برمته دفعة واحدة، وعبر عن قدر عال من الحكمة والجرأة حين وظف الوضع المضطرب لتقبل الإصلاحات التي فكر فيها تفكيراً عميقا وعمل على تنفيذها، فالمحلل المتأني لتطور الأوضاع في الجزائر آنذاك يلاحظ أنّ فكرة تجديد النظام السياسي وجعله نظاما ديمقراطيا فكرة راودت الرئيس منذ بداية الثمانينات وعلى وجه التقريب منذ المؤتمر الاستثنائي الاول لحزب جبهة التحرير الوطني 1980 الذي سطر التوجيهات الكبرى للتنمية لعشرية الثمانينات.
دستور 1989 .. من الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية
دخلت الجزائر عهدا جديدا بخطى متسارعة وكأنها في سباق الزمن، هذا العهد الجديد الذي ارتسمت معالمه واتضحت يوما بعد يوم وقف وراءه رجل عمل و بذل كل ما في وسعه من أجل أن تقوم المؤسسات الشرعية بما عليها لتطوير المجتمع وتغييره نحو الأفضل.
لذلك فإن الرئيس بن جديد أعلن الإصلاحات ووجد قبولا عاما على خلاف ما كانت تتوقعه بعض الأوساط الرسمية غير المتحمسة للتغيير، فخطوات الإصلاح كانت حاسمة وسريعة نسبيا، فبعد استفتاء الشعب في تعديل الدستور أثناء شهر فيفري 89 وفي أحكامه المتعلقة بالسلطة التنفيذية التي فصلت عن مهام رئيس الجمهورية وصارت مسؤولة أمام السلطة التشريعية، شكلت بالفعل حكومة جديدة ترأسها "قاصدي مرباح" وقدمت برنامجها أمام المجلس الشعبي الوطني ( البرلمان) الذي منحها الثقة بعد مناقشات جرت في منتهى الديمقراطية ونقلت لأول مرة كاملة على أمواج الأثير وعلى أعمدة الصحف.
في فبراير 1989 صوتّ الشعب الجزائري لصالح الدستور الجزائري والذي أقرّ مبدأ التعددية السياسية والاعلاميّة . وفور المصادقة على الدستور الجديد والإقرار بمبدأ التعددية السياسية والحزبية نصّ على أنّ الاسلام هو دين الدولة وأنّ اللغة العربية هي اللغة الرسمية، وقد حددّ مهمة الجيش الجزائري في صون الاستقلال والدفاع عن السيادة ، كما نصّ الدستور على ضرورة الاحتكام الى صناديق الاقتراع كوسيلة محايدة لمعرفة حجم القوى السياسية في الإطار الديموقراطي . وبعد هذه التغييرات الجذرية تكاثرت الأحزاب بشكل مدهش حتى بلغت ستين حزبا.
والحق أنّ الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي ما انفك الرئيس بن جديد يعمل لتطبيقها منذ نهاية الثمانينات مثل تخفيف أعباء التسيير عن الدولة وتشجيع الفلاحين على خدمة الأرض وإسهام القطاع الوطني الخاص في مجهود التنمية وإعادة تنظيم المؤسسات الاقتصادية وتحقيق استقلاليتها، كلها تترجم بصدق إرادة الثورة في بناء مجتمع إشتراكي متكافئ الحقوق والواجبات لا فرق بين شماله وجنوبه، شرقه وغربه، وأتت كتطبيق عملي لما التزمت به القيادة السياسية في متابعة عملية التنمية كما جرت وقائعها في الميدانية من خلال زيارات الرئيس للولايات والتعرف على المشاكل في عين المكان، ولتدعيم تقاليد الحوار المباشر بين القيادة والقاعدة من أجل تحقيق تنمية منسجمة.
انسحاب ..ثم رحيل
رجع بن جديد إلى الشعب ولم يخيّب الشعب الرئيس الذي وضع فيه الثقة الكاملة فحفظها وصان الأمانة وهكذا جدّد الشعب الجزائري في 22 ديسمبر 89 ثقته للمرة الثالثة في الراحل " الشاذلي بن جديد"رئيسا للجمهورية بأغلبية ساحقة وهو ما مكنه من السير قدما بمشروع الإصلاحات.
وفي أول انتخابات بلدية جرت في 12 جوان 1990 فازت الجبهة الإسلامية للانقاذ، التي طالبت الجبهة بإجراء انتخابات تشريعية وبررت ذلك بأنّه لا يمكن الحديث عن التعددية السياسية في ظل وجود برلمان أحادي حكر على حزب جبهة التحرير الوطني .
وقد وعد الشاذلي بن جديد بإيصال الإصلاحات السياسية إلى ذروتها، فقررّ أن تجرى انتخابات تشريعية في في 27 جوان 1991، الاّ أنّ الانتخابات لم تجر في موعدها، بل عادت الجزائر أثناءها الى درجة الصفر أو ماقبله، حيث عادت الدبابات من جديد الى الشوارع الجزائرية وفرضت حالة الحصار العسكري، وأقيلت حكومة مولود حمروش، و أعتقل قادة الجبهة الاسلامية للإنقاذ ومرّت العاصفة بسلام، اذ عاد الشاذلي بن جديد وحددّ موعدا أخر للانتخابات التشريعية في 26 ديسمبر 1991، واستعدت الجبهة الاسلامية للإنقاذ وبقية الأحزاب لخوض غمار المعركة الانتخابيّة من جديد لتنتصر الجبهة الاسلامية مجددا وحصلت على 188 مقعدا في البرلمان وحلّ في المرتبة الثانية حزب جبهة التحرير الوطني وفي المرتبة الثالثة جبهة القوى الاشتراكية. بعدها تحركت جبهات اليسار والبربر والفرانكفونيين وطالبت بإلغاء الانتخابات كما طالبوا الجيش الجزائري بالتدخل وتوقيف المسار الانتخابي في شتاء 1991 هي اوضاع دفعت بالرئيس بن جديد إلى تقديم إستقالته من الحكم مخاطبا الشعب قائلا:
".. و أمام هذه المستجدات الخطيرة فكرت طويلا في الوضع المتأزّم و الحلول الممكنة وكانت النتيجة الوحيدة التي توصلت اليها هي أنّه لا يمكنني الاستمرار في الممارسة الكليّة لمهامي دون الاخلال بالعهد المقدّس الذي عاهدت به الأمة . ووعيا مني بمسؤولياتي في هذا الظرف التاريخي الذي يجتازه وطننا فإنني أعتبر أنّ الحل الوحيد للأزمة الحالية يكمن في ضرورة انسحابي من الساحة السياسية .
ولهذا أيّها الاخوة، أيتها الأخوات، أيها المواطنون، فإنني ابتداء من اليوم أتخلى عن مهام رئيس الجمهورية وأطلب من كل واحد ومن الجميع اعتبار هذا القرار تضحية مني في سبيل المصلحة العليا للأمة. ."
وبقي الرئيس الراحل " الشاذلي بن جديد" يقيم بالجزائر إلى أن وافته المنية يوم 06 أكتوبر 2012 لتبقى مذكراته وذكرياته في الجزائر شاهدة على حياة رمز من رموز هذا الوطن.
المصادر:
- كتاب الجزائر من أحمد بن بلة إلى عبد العزيز بوتفليقة ل: يحي أبو زكريا.
- مجلة المجاهد، الجمعة 29 أكتوبر 1982، العدد 1160.
- مجلة الحوار، فيفري 1989، العدد 20.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)