الجزائر

السلطات تقبض أجورها والكلمة الواحدة بألف للرابعة



إلى حد هذه الأيام، كان من الصعب جدا تخيل كيف يمكن أن تزن الكلمة على طريقة وزن البطاطا هذه الأيام بالمليغرام وليس بالكيلوغرام سواء تخرج تلك الكلمة من الظلمة على حد تعبير شاعر الفقراء فؤاد نجم أو تخرج من بطن الشمس المشرقة والمحرقة. أقول من الصعب جدا، إلى أن جاء سلم الأجور الخاص بالصحفيين العموميين ليكون وزن الكملة الواحدة بألف على أمل أن يقتاد بها الخواص! والصحافة ومعها الثقافة التي يغيب فيها ميزان التاجر وقد يحضر مقص الحلاق زيادة عن خدمة «سالف سرفيس» أي الخدمة الذاتية ومعناها الرقابة الذاتية هي ظل السلطة وفهمها يعني فهم جوهر السلطة نفسها!!
صرّح… وقال!!
في آخر أيام الأحادية الحزبية وليس الأحادية الفكرية لأن حرية الصحافة كانت أكبر بكثير وكلمتها المسؤولة مسموعة، ولم تكن في ذلك العصر مجالا مفتوحا للبطالين الذين لم يجدوا عملا سهلا أفضل منها، ويمارسها بعض ممن لا يفرق بين الألف وعصا الراعي، في ذلك الزمن صدر سلم وطني لأجور الصحفيين المنضوين تحت عباءة واحدة مع السينمائيين والممثلين والرسامين وحتى الشابة زعرورة والشاب هزيل!
ومما جاء فيه مثلا أن المصور التلفزي «كاماريمان» مصنف أعلى من الصحفي مع أن الفرق بينهما شاسع إذ إن مستوى الأول التعليمي لا يتعدى النهائي، في حين أن مستوى الثاني جامعي في خمسة وتسعين بالمائة من الحالات، أما فكرة تقديم المصور على الكاتب الذي يكتب أو يخربش كما صار يفعل ذلك الكثيرون فيما بعد فهي نظرة الحكومة وأعوانها أنفسهم إلى قيمة الرجلين، فالمصور في الاجتماعات مقدم على الصحفي الذي قد يمنعونه من دخول قاعة الاجتماعات وهذا طبعا في حالة عمل صحفي بسيط اسمه التغطية وعادة ما يبدأ ب«قال» و«أكد» و«صرح»، واستقبل و«ودع» وهي المهمة الأساسية الموكلة منذ سنوات للإعلام الحكومي المسمى تجاوزا على المطلوب إعلاما عموميا!
فالمهم بالنسبة للحكومة والمعني بالأمر أي الحكومجي على وزن القهواجي، والجورنانجي أي الذي يكتب في الجرائد، كما كان يسمى في ثلاثينيات القرن الماضي، أن تظهر صورة القمقوم في التلفزة، فالظهور في دولة المظاهر الخداعة والشكليات في اليتيمة التي أنجبت يتامى مثلها معناه أن المسؤول و«المسهول» خدام ويستحق الاحترام، وخادم الناس (بالمجان) سيدهم ويرى رأي العين! والظاهر أن هذه الصورة المقلوبة لوضع الحرف مقارنة مع النقطة والصور في النهاية هي مجموع نقاط لم تغب تماما عن السلم الجديد لأجور الصحفيين العموميين باعتبار أن نفس الوجوه ظلت محتفظة بنفس الأفكار ولم يبدل الزمن منها مقدار حبة خردل حتى وإن بدا الحقل الإعلامي المصور يتجه على طريقة الإعلام المكتوب لكي تختص بعض قنواته في موضوع الجرائم أو في الإثارة فكل إناء ينضح بما فيه، وهذا بالطبع له جمهوره الواسع والعريض الذي يتجاوز جمهور الجلدة المنفوخة وكله يعكس بالطبع المستوى الثقافي العام ودرجة التحضر الموجودة تحت الصفر!
أتعاب الأتعاب!!
سعر البضاعة محددة عادة بكلفتها زائد هامش الربح، فهذا هو المعمول به في الحالات العادية، لكن التاجر في كل الأحوال يمكنه أن يخدعك بألف طريقة وطريقة من السرقة في الميزان ونوعية السلعة، إلى المبالغة في الأثمان تحت مبررات قلما تصدق والبعض عاد إلى أسلوب آدم عليه السلام في سالف العصر والأوان حين قام بمبادلة الخدمات كما يحدث فيما يعرف بالمقايضة كما هو الحال بين جنوبنا الكبير وشمال مالي (المرشح لكي يكون دولة) أو كما يحدث في هذه الأيام عند الإسبان بعدما ضربتهم أزمة الرأسمالية دعه يعمل دعه يمر، كأن يبادل أحدهم حلق لحية جاره مقابل أن يكنس له داره!
وهذا النوع من الاتفاق بالتراضي ليس من السهل تطبيقه على أي إنتاج فكري بما فيه إنتاج علف الصحافة والثقافة وإن كنا نسمع أن الفنان الفلاني مثلا قرر من تلقاء نفسه رفع أجره وهو أمر لا يمكن أن يحصل إلا إذا أحس هذا الأخير بأنه مطلوب ومرغوب، وأن فوله طياب أحسن من فول الآخرين، فهل أن رفع أجور العموميين بما فيه أجور الصحفيين يخضع لمنطق العرض والطلب؟
بالعودة إلى أجور الصحفيين في عهد الأحادية البائد وقبل أن ندخل باب الخوصصة والخصخصة والبصبصة، كانت هي الأعلى مقارنة مع أجور أساتذة الجامعة قبل أن تستقر في مستوى محدد وتقفز أجور الآخرين ومعها تقفز أجور المربين أجمعين، وهذا تحت الضغط بحكم أن هؤلاء يتحكمون في نحو ثمانية ملايين بين تلميذ وطالب يمكنهم أن يقعوا أسرى الإضرابات والاحتجاجات فيهددون الأمن العام.
والحكومة عودتنا على أنها لا تستجيب ولا تضع يدها في الجيب إلا إذا خرج الخلق إلى الشارع، مهللين مولولين، وعندما تقرر الحكومة في يوم العلم الذي نحتفل به كل عام مرة، وفي باقي الأيام نحتفل بالجهل ونكرسه بإصدار «فرمان» ينقل أجرة الصحفي العمومي من الدرك الأسفل من النار إلى جنة «راقدة وتمانجي» أي جزاء بلا عمل ولا تكلف «شيئا»، فإن ذلك يطرح عدة فرضيات:
الأولى أن بعض الألسنة الخبيثة ستعتبر هذه النقلة بمثابة رشوة مقدمة لأصحاب ما يسمون بالسلطة الرابعة (والأربعين) لقاء متاعبهم الكثيرة في تغطية التنقلات الرسمية للمسؤولين وسلسلة التدشينات وإعادة التدشينات. والاتهام هذا جاهز في كل الأحوال منذ أن قامت الحكومة بإحداث قفزة نوعية قبل أعوام في سلم أجور النواب وامتيازاتهم، أي السلطة الثانية، قبل أن تكرر ذلك مع القضاة باعتبارهم السلطة الثالثة وهذا هو السبب الرئيسي الذي يجعل الكل يتهافت وراء النيابة مثلا لعلها تكون من نصيبه حتى وإن غلفوها بالشعارات الشعبوية من نوع أنه جاء لكي يكون خداما للشعب وليس حلابا له!
مع أن أجور النواب مقارنة بالمنصب لا تبدو كبيرة جدا وهي أقل من أجور بعض مديري الصحف الخاصة كما رد أويحيى في وقتها بعد ظهور هذه الزوبعة.
الثانية أن السلطة التي أدركت أن خدمها الأقربين لم يعودوا في مستواها بعد أن ظهر العياء عليهم وأرقتهم الخبزة والرقدة والوجبة مثلما أرقت الطلبة! فأرادت أن تفيض عليهم ببعض خيراتها التي لا تنتهي!
لعل إقرار أجرة تتجاوز الخمسة مليون للمبتدئ في الصحافة العمومية و14 مليونا للخبر الذي يأتي به التوالى، من شأنه أن يفتح ثلاث جبهات في نفس الوقت: الجبهة الأولى مع عمال الصحافة الخاصة ومعظمهم في حالة يرثى لها بعد الانفجار الإعلامي الذي يشهد ميلاد جريدة كل عشرة أيام رغم أن حقل الأخبار وخريطة القراء لم تتغير!
والجبهة الثانية مع الفئات الأخرى الشبيهة للصحافة من كتاب وناشرين ومؤلفين وموزعين، فهؤلاء بالنظر إلى ارتفاع سعر الكلمة إلى مستوى سعر بناء «بريكة» أي حجر الأجر مع «ماصو» مؤهل سيطالبون بأن تشمل بركات هذا الأجر فئاتهم لأن الأمور مترابطة ويشد بعضها بعضا!
والجبهة الثالثة ستفتح مع الفئات الأخرى المستفيدة من الأطباء إلى المعلمين للمطالبة باستفادة أكثر طالما أن الأولين يحملون شهادة أعلى أو في مستوى شهادة الصحافي من دون الخوض في مسألة الكفاءة لأنها حديث ذو شجون.
الدار الكبيرة…
عكس القطاع الخاص، يقود القطاع العمومي قاطرة رفع الأجور، ولكل مبرراته، وهذا القطاع الذي تحول إلى مأوى للعجزة والفاشلين كان يدرك منذ البداية أنه كالحوت يموت إن خرج من الماء، فالذهاب إلى الدار الكبيرة أفضل إن لم يتعش الواحد فهو يبيت في الدفء، بينما أدرك الذين ذهبوا للخواص طوعا أو كرها بأنهم كمن هرب من قطرة فسقط في الميزاب.
بدليل أن ربراب الذي يملك ربع البلاد وله مال وفير ولم يعرف ماذا يفعل به يريد أن يناقش عماله في مسألة الأجور على أساس اتفاق فردي، وليس جماعي وهو إخلال واضح بقوانين العمل.
وبالعودة مرة أخرى لإلى الصحافة (والثقافة) أي ظل السلطة التي نصب فيها بموجب القانون صاحب الرأي في أعلى الهرم، يمكننا فهم ميكانيزم تفكير هذه السلطة نفسها، فكاتب الافتتاحة أو العمود في الصحافة الحكومية، فضلا عن الخاصة غير موجود تقريبا، وغير مرغوب فيها عكس ما كان يوجد في مصر أيام مبارك مثلا. لأن السلطة ببساطة لا تريد آراء قد تزعجها ولا تسمح في أحسن الأحوال إلا بالآراء التي تفسر وتوضح مواقفها أو تبرر خزعبلاتها على كثرة ما تنتجه في كل مرة.
فالتفكير مهمتها وعلى الكتبة الذين يقبضون أجورهم وبالزيادة رص الكلمات رص «الماصوات» للطوب والحجر!




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)