يقول ابن عطاء الله السكندري:”بّما أفادك في ليل القبض، ما لم تستفد في إشراق نهار البسط ((أيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً))”.يقول الإمام القشيري في رسالته، في تعريفه لكل من القبض والبسط:”هما حالتان تعرضان بعد ترقي العبد عن حالتي الخوف والرجاء”ثم ذكر الفرق بين كل من القبض والبسط والرجاء فقال”إن الخوف إنما يكون من شيء في المستقبل، وكذا الرجاء إنما يكون بتأمّل بمحبوب في المستقبل وأما القبض فيكون لمعنى حاصل في الوقت وكذلك البسط، فصاحب القبض والبسط أخيذ وقته، بواردٍ غلب عليه في عاجله” إن المسلم أياً كانت درجته معرض لهاتين الحالتين اللتين اصطلح القوم بتسميتهما:القبض والبسط..فقد تعتريك على غير توقع حالة من الضيق والانكماش، تغيب فيها مشاعر الأنس من نفسك، وتنتشر في مكانها مشاعر الوحشة من كل ما قد يحيط بك، دون أن يكون الدافع إلى ذلك خوفاً من مآل أو توقعاً لعقاب، وربما أثر ذلك على ما قد تتمتع به في العادة، من لذة حضور الصلاة ومجالس الذكر ونحوها.وقد تعتريك على غير توقع حالة من السرور و الانشراح يستخفك فيها أنس، فلا ترى في كل ما يحيط بك إلا ما يبعث في نفسك الرضا والابتهاج أياً كانت حقيقته ومظهره، دون أن يكون الباعث إلى ذلك بشرى تلقيتها في آية مثلاً من كتاب الله، أو في حديث مفرح من كلام رسول الله.ولا نجد تحليلاً لهذين الحالتين وسبَبًا لتعرض الإنسان لكل منهما، إلا ما يقوله أكثر علماء هذا الشأن، من أنه لا يعدو أن يكون دلك أثرًا لتجلي الله على فؤاد العبد، قد يتجلى عليه تجلي لطف وجمال، فيستخفه الطرب وتسري في دخائله النشو، فلا يبصر بعينيه إلا ما يبعث في نفسه مزيداً من البهجة والحبور، ولا يسمع بأذنيه إلا أناشيد الحب وأنغام الصفاء..وقد يتجلى الله عليه تجلّي سطوة وجلال، فيستوحش من الدنيا بكل ما فيها، ولا يبصر في كل ما حوله منها إلا ما هو مبعث هم وغم، ومهما تألقت أمامه المبهجات والمفرحات على اختلافها، فإنها لا تخفف شيئاً من الوحشة التي تطوف بنفسه.وأنت تعلم أن الحديث هنا عن المسلم الذي سلك طريق الوصول إلى الله، فلا جرم أننا لسنا معنيين هنا بما قد يتعرض له التائهين من الناس من حالات السرور والكرب.إنها حالات خاصة لها أسبابها الدنيوية التي تناسب أحوالهم وتقلباتهم.لكن ما الحكمة في أن يتعرض السالك لهاتين الحالتين، الواحدة بعد الأخرى وأيهما خير له؟وإذا كانت إحداهما خيراً له من الثانية، فلماذا لا تكون هذه الحالة المفضلة هي الملازمة له دائمًا ؟والجواب: أن أيًا من هاتين الحالتين لا يصح أن توصف بأنها هي الخير للسالك دائماً، كما لا يصح أن توصف الأخرى بأنها شٌر له دائماً.فالبسط إذا سيطر على نفس السالك، ولازمه دائماً، فإنه يوشك أن يخرجه عن ضوابط الأدب مع الشرع، وأن ينسيه حقائق عبوديته لله.فيقع في ألوان من الشطط والشطح.والقبض إذا احتل جوانب النفس ناله من ذلك هم قد يتحول بسبب الاستمرار إلى كرب فقنوط فيأس.. ولكن كلاً من الحالتين يعدّ علاجاً إذا وافق وقت الحاجة إليه، وإذا تأملت، تبينت حكمة الله في تعرض السالك للقبض في حالات؛وللبسط في حالات أخرى. ولما كانت حالة البسط هي الأكثر انسجاماً مع الرغبة، وهي الأكثر دلالة –في الظاهر-على رضا الله عن العبد، إذ تكون هي في الغالب مبعث الحضور والخشوع والتجليات في العبادات والأذكار، ركز ابن عطاء الله على حالت القبض، ونبه إلا ما يتوقعه السالك من الفوائد التربوية التي فيها.. منها:أنَّ استقبال هذه الحالة من حيث لا يريدها ولا يتوقعا، من أبرز مظاهر عجزه ودلائل كونه لا يملك من أمر نفسه شيئاً..ومن أوضح الدلائل على أن ناصيته بيد الله وعلى أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله، يقلبه كما يشاء.. والعبودية ما هي إلا استسلام لهده الحقيقة فيفر إلى الله يدعوه، لائذاً به مستجيراً من ضعف نفسه بقوته وسلطانه، مستجدياً رحمته به وتوفيقه له.في حين أن البسط عرضة لدفع صاحبه إلى الذهول عن سوء حاله وعن مظاهر تقصيره في جنب الله عز وجل، بما هو منشغل به من مشاعر النشوة والزهو بتجليات الألطاف الإلهية عليه.وإن كانت حالة البسط هذه لا خوف منها على الربانيين والعارفين من عباد الله، لذهولهم بالله عن أنفسهم وما يمكن أن تعتريها أو تطوف بها من مشاعر، فإنها مصدر خوف كبير على السالكين الذين لم تحرر أنفسهم بعد عن الشوائب والآفات..المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 21/07/2014
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : الفجر
المصدر : www.al-fadjr.com