الجزائر

الروائي سمير قسيمي يعترف: الكتابة لا منطق لها ولو خُيِّرت بين الموهبة والاحتراف لاخترتُ الأولى



الروائي سمير قسيمي يعترف: الكتابة لا منطق لها ولو خُيِّرت بين الموهبة والاحتراف لاخترتُ الأولى
لكل حالة إبداع خصوصيتها إلا أنني أميل إلى "السرد العنكبوتي" بشكل حاد رغم صعوبة هذا النوع من الكتابة
الأرقام في الرواية ليست عبثية ويمكن اكتشاف دلالاتها بقليل من التمحيص
هي محاولة أخرى لاكتشاف سحرها وغرائبيتها وأسرار كتابتها، منذ المخطوط الأول وإلى غاية قراءتها كاملةً لأكثر من مرة، بعد صدورها، هي رواية الموسم، كما وُصفت ولم تزل تحقق نجاحها في استقطاب القراء والنقاد، كل حسب غايته، إنها رواية "الحالم" لصاحبها الكاتب الجزائري سمير قسيمي، الذي التقيتُه في هذا الحوار القصير لأفاجئه بأسئلةٍ هي مجرَّد مفاتيح لأبواب مواربة لم تكن أبدا موصدة في وجه القارئ المتطلِّب، الباحث عن المتعة والدهشة..
حاوره: خالد بن صالح
بداية كيف تمكّنتْ من سحب القارئ إلى قراءة كل الرواية؟ دون إغفال النكهة الأوستيرية في غرائبية المقدمة، وهل هو نوع من تحدي النقاد حين ذكرته بالاسم كما أعلنت مسبقا عن أصل عنوان الرواية؟
حاولت في مقدمة العمل التي وصفت بالفصل التمهيدي، أن أجمع كل ما أقدر جمعه من توابل تشويقية تدفع القارئ قدما إلى قراءة العمل كاملا، فقد كنت على علم أن من اعتادوا القراءة لسمير قسيمي، سيستغربون ولربما سينفرون من قراءة عمل هو في ضخامته "من حيث عدد كلماته" أقل بقليل من جميع أعمالي السابقة مجتمعة. كما خشيت من أن أنفر قراء لم يقرأوا لي من قبل. لهذا حاولت أن أجعل من المقدمة شبه قصة، هي تملك حبكتها وأحداثها وشخوصها أيضا، ولكنني ارتأيت أن أجعلها أكثر تشويقا بغرز ما يجب فيها من غرائبية ولا متوقع. ربما هذا ما يجعلك تصف نكهة المقدمة بالأوستيرية نسبة إلى بول أوستر، وهو وصف معقول من ناحية ومرفوض في نفس الوقت، على اعتبار أن اعتماد بول أوستر على فكرة "الصدفة" أو حتى استغلاله لنفسه كشخصية في رواية، ليست خصائص أصيلة له، وهو بدوره استعار هذا الأسلوب ممن سبقوه حتى أنني أملك يقينا أن الأوستيرية ليست إلا صورة أكثر حداثة لكتابات جماعة بلانيت الشهيرة، لهذا أعملت بعض الخبث في المقدمة وذكرت عرضا جوزف بريستلي وروايته "زحل فوق وجه الماء"، وقد حظيت بترجمة بديعة لنفس الرواية بعنوان "لعنة زحل" عن دار الفارابي. ومع كل ذلك فقد تعمدت حقن نصي ببعض الملامح التشويقية وفق أسلوب أوستر لغرض أعتقد أنني أظهرته في لاحق العمل.
أي غرض تقصد؟
أقصد قدرة البطل "ريماس إيمي ساك" على امتصاص الأدب العالمي وكتابة نصوص تتفرد فيه. ألم أذكر في جزء "المترجم" أن البطل مهووس بالتفاصيل ويحب قراءة الروايات التي تعنى بها؟، لقد ذكرت أيضا أن ريماس يكتب بالفرنسية ومرجعياته أو معظمها غربية، لهذا جاء الإعلان بعناوين الروايات الغربية بوفرة في العمل، لعل هذا ما جعل الدكتور ليامين بن تومي يقول أن "الحالم" رواية مثقفة.
هناك ملاحظة مهمة في هذا الشأن تتعلق بذكري لأسماء وعناوين بعينها دون سواها. تذكر معي أن من شملهم "الحالم" في صفحاته كانوا على وجه الدقة: بول أوستر، بريستلي، جورجي أمادو، سرنييه، جوزف روث، غارسيا مركيز.. جميع هؤلاء يشتروكون في خاصيتين، لا تهمنا منهما الآن إلا خاصية "البناء"، إنهم كانو بنائين في أعمالهم الأكثر شهرة، وبطل "الحالم" ريماس كان بناء مثلما ذكر الراوي في جزء "مسائل عالقة" وهو ما كنته أنا بدوري في كتابة هذا العمل.. البناء وإن كان أمرا محترفا ومدروس العواقب، إلا أنه أسلوب أمقته في الحقيقة، ففي قرارة نفسي، أميل إلى العمل الذي يبدأ من دون حسابات كثيرة، لا لشيء إلا لأن القدرة على إنهائه تعني امتلاك الكاتب موهبة فطرية، في حين أن إنهاء العمل "البناء" لا يعني أكثر من كون الكاتب محترف إلى أقصى حد. لو خُيِّرت بين الموهبة والاحتراف لاخترت الأولى.
من المثير هنا أن تذكر جماعة بلانيت. هل أفهم من ذلك أن مرجعيتك في كتابة "الحالم" لم تكن أدبية فحسب بل تعدت إلى علوم أخرى.. شرعية السؤال في كون أن المنطق الرياضي هو من ساد في بناء الرواية: الدقة، التحكم في اللغة، سير الأحداث، التمكن من لعبة المرايا دون مجالٍ للخطأ، وصولا إلى الخاتمة المفاجئة؟
أذكر جيدا مقولة رائعة حفظها لنا أستاذ الرياضيات في الثانوي، أعتقد أن اسمه كان بوغاف. كان يقول ألا شيء في الوجود يخلو من الرياضيات. كنت أعتقد أنها مقولة ينطق بها أستاذ ليحبب لتلاميذه مادة الدرس، ولكنني في النهاية وبعد سنوات من دراسة الرياضيات وأيضا بعد عقود من حياة تشعر أحيانا أنها عبثية، تدرك صحة تلك المقولة، فحتى العبث والفوضى وحتى الصدفة تحكمها الرياضيات أو على الأقل تلقي بمنطقها عليها.
في الحالم تسود الرياضيات بشكل حسي يشعر به كل دارس لها. ففيما تعلمنا من أنماط البرهان، توجد طريقة معروفة ب"الإثبات لفصل الحالات"، وأشهر أنماط البرهان أيضا "البرهان بالعكس النقيض". أنظر إلى الحالم الآن وأجدني شابكت بين الطريقتين أو النمطين لأبلغ النهاية التي رسمتها، فصلت الحالات الوجودية للبطل باختلاف توصيفاته وانتهيت مع كل فصل إلى نتيجة، أقصد رواية، لأصل إلى ثلاث نتائج "ثلاث روايات" جمعتُها لأبلغ النهاية. في نفس الوقت أعملت العكس النقيض الذي أساسه أن تنفي الحالة في سبيل إثباتها.. لقد نفيت البطل لأثبت بطولته ووجوده. هاذين النمطين يعتمدان على تجاهل الحقيقة وهي المطلوب لإثباتها.. ألم أفعل نفس الأمر مع خباد رضا الذي جعلت منه مجرد "كنبارس" لتظهر النهاية أنه البطل الحقيقي لكل الرواية.
في رواياتك السابقة اعتمدت طريقة تعدد الرُّواة بشكل جلي، نرى أنك لم تحد عن هذا الأسلوب الروائي الشائك إنما وزعت الأدوار على عدة شخصيات تتقاطع في اسم واحد ومصائر مختلفة، هل أردتَ أن تفضحَ طريقة الكُتاب في كتابة الرواية؟
أفضح؟.. لا أعتقد. إذ لا توجد طريقة معينة في كتابة الرواية، لقد أعجبتني ملاحظة جميلة قالها ستيفن كينغ على لسان إحدى شخصياته، إن لم تخني الذاكرة فقد كان ذلك في روايته "حكايات شتوية". المهم أن أبطاله وكان طبيبا قال في وصف "الولادة" أن المخاض وإن حمل مدلولا أكاديميا واحدا فإن تطبيقاته الواقعية تجعل لكل مخاض خصوصياته بحيث يبدو للمرأة حتى كثيرة الإنجاب أنه يختلف من ولادة إلى أخرى، لا أخفي عنك مدى ضحكي حين أقرأ بين الحين والحين بعض المقالات المنظرة للرواية حتى من قبل روائيين لم يكتبوا إلا عملا أو عملين، وكم صار مقيتا أن تراهم يستدلون بأعمال سواهم رغبة في خلق هالة من العظمة الكاذبة على فشلهم السردي. إنك حين تقرأ مقالة بعنوان على شاكلة "هكذا قتلت فلان حين قرأت لفلان"، تصاب بالذعر، فكيف يمكن لقراءتك لهنري ميلر مثلا أن تنسيك في جمال كتابات نجيب محفوظ أو العكس، وكيف يمكن لغارسيا مركيز أن يحتل مكانة محمد ديب أو إدوارد غراي ستيفل والعكس بالعكس. ما زلت أؤمن أن منطق الكتابة هو أن لا منطق لها، بحيث لا يمكن تعلمها أو تدريسها على الأقل بالنحو الذي نتخيله.
السرد العنكبوتي ظهر مع "في يوم رائع للموت" ولكنه أكثر وضوحاً في "الحالم". هل يعود هذا أن الكاتب استعان في نفس الوقت بأساليب أخرى "وحشية السرد" في يوميات ريماس، بمقابل السرد الهادئ في "مجرد جنازة لا غير"؟
في اعتقادي أن أول من استعمل عبارة "السرد العنكبوتي" كان باسم سليمان في قراءته لروايتي "يوم رائع للموت" ورغم صعوبة هذا النوع إلا أنني أميل إليه بشكل حاد، ربما لأنه أسلوب يملك القدرة على جر القارئ إلى متاهات أقل نورا، كما أنه يجعلك تقفز على تفاصيل من دون أن ينتبه القارئ في سبيل الوصول إلى أخرى قد تكون أهم بالنسبة للرواية.
أما ما يتعلق بتباين الأساليب من جزء إلى جزء في "الحالم" فلأن كل جزء اقتضى ذلك على اعتبار أن الكاتب يتماهى مع سواه في كل جزء.. البطل في مسائل عالقة ليس هو نفسه البطل في المترجم وليس هو نفسه في الجزء الأخير. ولكن الخيارات التي وقعت عليها كانت مبررة أيضا من حيث مراعاتي للحالة الذهنية للبطل، إننا نتحدث عن شخص مجنون: كان على الجزء الأول أن يعبر عن حدة الصدمة، لهذا كانت مسائل عالقة رواية خيالية بشكل ما، انفصال مطلق عن الواقع، تحتاج مثل هذه الحالة إلى راو عليم يمكن البطل من رؤية نفسه وعالمه من فوق، وكأنه يصرح لنا "هذا أنا ولكنني هو". في الجزء الثاني وهو الموازي لمرحلة ما بعد الصدمة، كتبت "المترجم" بضمير المتكلم ولكن الحيلة أن الرواية أقصد "المترجم" كانت بحثا عن الذات، لهذا فضل المجنون أن يكون "المترجم"، ألسنا في النهاية مترجمين لأنفسنا؟ أليست إبداعاتنا ترجمة لما يختلج بدواخلنا؟.. في حين كتبت "الكتاب الأخير لريماس إيمي ساك" معتمدا على ما يعرف أدبيا ب"السرد المتوحش"، والذي أعتقد أن أهم رائد له في العالم اليوم هو الروائي الإسباني "خوان خوسي ماياس"، وهو سرد يلائم بنحو أكيد حالة عدم التوالف التي كان عليها البطل.. مازلت أؤكد أنني وإن اعتمدت على الصدفة كمحرك دفع في روايتي الحالم، فلم يكن للصدفة أن تكون أو توجد أو أن تعتمد في كتابة روايتي.
القارئ المنتبه يكتشف أنك احتلت عليه بشكل جميل بفكرة الجزء المسمى "حوار غير ودي مع كاتب لا يعرفه أحد" لتفتح له شهية اجتياز عتبات كل جزء من أجزاء الرواية الثلاثة، في سؤال مباشر كيف جاءت هذه الفكرة ومن أينا استقيتها؟
كانت الفكرة في البداية أن أدفع بالروايات الثلاث دون تقديم، ولكنني بعد قراءتها لأكثر من مرة، خشيت أن يستعصي هضم مثل هذا العمل. خشيت من أن اقتحام طمأنينة القارئ بمثل تلك الجرأة ستدفع به إلى وصف الرواية بالهلوسة لا أكثر. ثم وجدت أن تلطيف أجواء العمل لا يكون إلا عبر حكي مسترسل فيما يشه الرواية، وعاودتني منهجية الحكي في ألف ليلة وليلة، وقلت في نفسي "لم لا". ربما ما شجعني أكثر أن أعمالا إنسانية أكثر تجذرا في التاريخ وفي الوعي البشري كتبت بهذه الطريقة، يعني سؤال وجواب، وهي طريقة تمنح النص متنفسا أو كأنها محطات للتوقف والاستراحة.
ولكنك في هذا لن تستطيع أن تنكر وجود أوستر ونكهة كتاباته، ففي ثلاثيته المشهورة نجده في أول مشاهد الرواية يدخل نفسه بالاسم كما فعلت أنت بالتحديد؟
من الرائع أنك تشير إلى الأمر، ولكن دعنا نفصل فيه على نحو أكثر دقة: ثلاثية نيويورك ليست رواية بل ثلاث روايات لم يدفع بها الكاتب في كتاب واحد، فقد صدرت كل رواية على حدى، وقد فصل بين كل إصدار سنوات وأعمال أخرى لأوستر، كما أن فكرة جمعها تحت غلاف واحد لم تكن فكرته، بل ولم ينظر إليها أوستر على أنها ثلاثية، النقد الحيادي والرزين والقراءة الجادة من حملت إلى جمعها هكذا.
أما بالنسبة إلى مسألة أن أوستر زج بنفسه في الرواية، فليس أمرا جديدا أيضا ولا خاصية انفرد بها أوستر عن سواه، الأدب الأمريكي وحده عرف العديد من الروايات المنتهجة لنفس المنهج، فالتشبيه ليس دقيقا على نحو ما
ما هي دلالة الأرقام: 30، 34، 4 ؟ في تسمية الأمكنة، وعدد الروايات، وحضورها القوي على مدار أجزاء الرواية؟
سأبقي الأمر مبهما في هذه المرحلة، ولكنني أؤكد للنقاد والقراء على حد سواء أن لهذه الأرقام دلالات معينة يمكنهم اكتشافها في الرواية بقليل من التمحيص
في الأخير هل يستحق الحلم؟
دعني أقول أن "الحالم" وإن شكل سؤالك جوهرها الفعلي لم تسع إلى الإجابة عنه بأي شكل، ببساطة لأنها رواية حلم، بدأتها وكتبتها وأنهيتها وأنا مدرك أنني رجل حالم، هكذا أنا وهكذا سأظل، لأنني مؤمن أن الحلم مهما كان جنونيا فيستحق أن نبذل في سبيله حياتنا، وليس تحقيقه هو المهم بل الأهم هو السعي لتحقيقه.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)