حرص السلطان أبي حمو موسى الثاني 760-791هـ على إحلال الأمن والاستقرار في كل ربوع مملكته، مدركا أنها تشكل شرطا أساسيا لازدهار البلاد من الناحية الاقتصادية. فأمّن البوادي من العناصر المتمردة والقبائل الثائرة، فانطلق الفلاحون في أعمالهم، وأمّن الطرقات فمارس التجار تجارتهم في اطمئنان، يقصدون أسواق القرى والمدن. وغزت منتجات المملكة أسواق العاصمة تلمسان، وهبطت الأسعار لكثرة السلع حتى أصبح في متناول جميع فئات المجتمع.
وكانت تلمسان هي الأخرى تصدر مختلف منتجاتها، خاصة الحرفية، إلى كل مناطق المملكة وحتى خارج حدودها. وقد شجع تزايد حجم التجارة الصناع والحرفيون إلى تنويع مصنوعاتهم وتكثيفها وإتقانها. وشاركت المرأة التلمسانية بشكل فعّال في الحياة الحرفية، فكانت تصنع الثياب الصوفية والخمائل والتطريز والخياطة في عقر دارها، وساهمت بذلك في نمو الحياة الاقتصادية بتلمسان.
كانت لتلمسان علاقات تجارية مكثفة مع بلدان المغرب والسودان الغربي، تصدر إليهم وتستورد منهم مختلف البضائع المصنوعة والمنتجات الزراعية والحيوانات. فكان التجار يرسلون سلعهم من تلمسان إلى ما وراء الصحراء عن طريق سجلماسة، حيث تلتقي قوافل المغرب الأوسط بقوافل المغرب الأقصى وتتوجه من هناك إلى تُنْبُكْتُو ثم غانة شرقا، ونحو الساحل الغربي وجنوب وادي الذهب وغينيا غربا.
الشركات التجارية الصحراوية:
وقد تكونت شركة صحراوية تجارية هي شركة المقريين، جاء ذكرها في "الإحاطة" للسان الدين بن الخطيب عن شيخه أبي عبد الله المقري، أن لجده أبي بكر بن يحيى بن عبد الرحمن أربعة أخوة اشتركوا في التجارة ومهدوا طريق الصحراء بحفر الآبار وتأمين التجارة، واتخذوا طبلا للرحيل وراية تقدم عن السير. وكان أبو بكر ومحمد بتلمسان، وعبد الرحمن بسجلماسة، وعبد الواحد وعلي بإيوالاتن الواقعة في الشمال الغربي من تنبكتو على بعد ستمائة كيلومتر.
فكان أبو بكر يبعث إلى عبد الرحمن بما يحتاجه من السلع فينقلها إلى عبد الواحد وعلي، ويستلم منهم الجلود والعاج والجوز والتبر والذهب ومواد أخرى ليبعث بها إلى تلمسان. فاتسعت بذلك تجارتهم وزادت أموالهم وعظم شأنهم في أواسط القرن السابع الهجري.
وكانت توجد بتلمسان ساحة كبيرة بالقرب من أبوابها الغربية تدعى ساحة القوافل (أو رحبة القوافل) كان ينزل بها التجار الآتون من المغرب والصحراء والشمال برفقة قوافلهم المحملة بالبضائع المختلفة والرقيق.
ويشير صاحب "الإحاطة" أن صادرات تلمسان كانت أوفر بكثير من الواردات، وهذا يدل على أن البلاد كان لها اكتفاء ذاتي وتعيش من محاصيلها الزراعية ومن مواردها المحلية.
لم تقتصر تجارة تلمسان على السودان الغربي فحسب، بل كان التجار يتوجهون نحو الأيواق الأوروبية، وخاصة الساحلية. وكانت موانئ هنين وأرشغول ووهران تشكل أهم موانئ المغرب الأوسط إلى جانب الجزائر وبجاية. كانت تخرج من موانئ الدولة الزيانية سفنا محملة بالسلع المصنوعة محليا والمستوردة من السودان، قاصدة الأندلس ومرسيلية وبيزا وجنوة، لترجع إليها محملة ببضائع تلك البلدان.
طبقة التجار:
ومن خلال هذا التبادل التجاري انتقلت الأفكار والثقافات بين ضفتي المتوسط من جهة وضفتي الصحراء الكبرى من جهة أخرى. تأثرت الدولة والمجتمع والاقتصاد في تلمسان بما وصل إليها من أفكار وعادات وأساليب جديدة في الصناعة والزراعة والفن، لأن السلع تعبير عن حضارة المجتمع الذي تنتج فيه ومظهر من مظاهر تطورها.
وقد استفاد أهل تلمسان كثيرا، ولا سيما التجار منهم، من انتعاش التجارة الداخلية والخارجية، فجمعوا أموالا وافرة ووسعوا من نشاطاتهم داخل المملكة وخارجها حتى شاع في تلمسان مثل يقول " أن السودان يشفي الناس من الفقر كما يشفي القطران الإبل من الجرب". وقد وصف الشريف الإدريسي هذه الحالة بقوله " لم يكن في بلاد المغرب بعد مدينة أغمات وفاس أكثر من أهلها أموالا ولا أرفه منهم حالا".
ومن البديهي أن تتكون في الوسط التلمساني طبقة غنية أرستقراطية، عملت على الاستثمار في الصنع والحرف، واهتمت بالفنون والفنانين، وبالأدب والأدباء، فشيدت لنفسها القصور والمساكن الفاخرة، وزخرفتها بأروع الزخارف، وجلبت اليد العاملة الماهرة للقيام بذلك. فالثروة المكتسبة عن طريق التجارة دفعت بهذه الطبقة إلى الارتقاء بذوقها الفني وحسها الحضاري، وبتذوق الفنون والآداب والموسيقى.
ورافق هذا الازدهار الاقتصادي ازدهارا اجتماعيا وثقافيا.فشيدت المدارس والفنادق والمساجد والحمامات والمارستانات والمنتزهات والقصور، كما عني بالمصالح العامة؛ فاستفاد الشعب كله من نمو الاقتصاد التلمساني. كما كان لذلك الأثر الإيجابي على خزينة الدولة التي امتلأت بالدنانير والذهب والفضة والأحجار الكريمة. وقد مكنت السلطان أبو حمو موسى الثاني من القيام بإصلاح الدولة والجيش وتطويرهما ، والإنفاق لإصلاح المرافق العامة وتوسيع المدينة، والاهتمام بالطرقات والموانئ، وإعانة الأندلس المحتضرة وغبرها من الإنجازات الكبيرة 1.
1 : أنظر: لسان الدين بن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، تحقيق: محمد عبد الله عنان، 4 ج، القاهرة: مكتبة الخانجي، 1973-1977. الشريف الإدريسي: وصف إفريقيا الشمالية والصحراوية، "قسم من نزهة المشتاق"، تحقيق: أدريان وأندري فيري، 2 ج، قرطاج: مؤسسة بيت الحكمة، 1992.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 20/10/2010
مضاف من طرف : tlemcenislam
المصدر : www.almasalik.com