الجزائر

الحضارة عند جيل دولوز



الحضارة عند جيل دولوز
إن قضايا مثل: الحرية، الاختلاف، التربية، الحضارة، الاعتراف...إلخ، هي قضايا الراهن، عالجها دولوز وفق منهجه النومادولوجي (méthode nomadologique): فما الاختلاف عنده؟ هل هناك علاقة بين الاختلاف والتكرار؟ وكيف تتحقق الحياة بحضور الاختلاف؟ وهل الحضارة الحقة هي التي تعترف بالآخر المختلف وتضمن له شروط الحياة؟ كيف يكون للمتعدد نصيب في الحياة خلافا للواحد الذي طغى على الفكر قرونا؟إن دولوز وهو يعالج مثل هذه القضايا لا يتساءل حول ال«أنا" "le je" بالمعنى الديكارتي، بل يتساءل حول ال«نحن" " le nous" بالمعنى النيتشوي، وهذا هو سؤال الراهن: ما الذي نحن بصدد أن نصير عليه؟ بداية يجب الحديث عن الثقافة كعنصر حضاري شيده البشر، غير أن هذه الثقافة كما يبين لنا دولوز، لم تكن نتاجا لبناء حر لدى البشر، وإنما كانت خلاصة بناء ناتج عن ضغط قوى تفض ذاتها كسلطة قاهرة، منظمة، عادلة، ترفض الفوضى والخروج عن قوانينها التي سطرتها من أجل ضمان حياة القطيع، فالتدجين هو عمل الثقافة حتى يبقى الإنسان خانعا تابعا.
يقول دولوز في هذا السياق: "إن الثقافة في التاريخ تتلقى معنى مختلفا جدا عن جوهرها الخاص بها، بما أنها مأسورة على يد قوى أجنبية ذات طبيعة مختلفة تماما. "يبدو إذن المعنى الحقيقي للثقافة قد حل محله معنى مزيفا هو من صنع قوى تفرض وجودها كصانعة للقرار وتجعل الإنسان كائنا مفعولا به (réactif) لا فاعلا (actif) وفق عدالة هي عقاب، حيث "استخدمت الثقافة دائما الوسيلة التالية: جعلت من الألم وسيلة تبادل، عملة، معادلا، المعادل الدقيق بالضبط لنسيان، خسارة متسببة، وعد لم يتم الوفاء به". أي فرضت عليه العقاب وبالتالي فعليه أن يتألم ويتحمل مسؤوليته عن كل شيء حتى ولو لم يكن له الخيار.
إن دولوز يوجهنا من خلال قوله: "هاكم معادلة العقاب التي تحدد علاقة بين الإنسان والإنسان، هذه العلاقة بين الناس تتحدد وفقا للمعادلة، على أنها علاقة دائن بمدين: تجعل العدالة الإنسان مسؤولا عن دين. وتعبر العلاقة بين الدائن والمدين عن نشاط الثقافة في سيرورة الترويض أو التكوين الخاصة بها"، لذلك فإن الحضارة الغربية فاعلة بمفعولها، فاعلة بقوتها القمعية، الذي سنح لهذه القوة أن تتشكل هو المفعول الذي يضطغن دوما ويهب نفسه أضحية للتدجين.
إنها حضارة دون روح ودون قلب كما قال ويبر (weber) "بأن العالم الرأسمالي الحديث كان ولا يزال عالم المتخصصين دون روح والسبرانيين دون قلب". إن صناع الحضارة وصناع الثقافة هم الأسياد، عدا ذلك فهم عبيد ذلك بأن مالكي الحضارة هم صناع القرار، عارفين، عالمين وأما الغير فهو متخلف، همجي، جاهل ينبغي أن يخضع لسيده المتحضر، أن يتبعه ويقلده.
إن الوعي كيان يتكون وينمو ويتجلى في المعيش اليومي باستمرار انطلاقا من الوجود الطبيعي الحيواني للإنسان إلى أن يبلغ أعلى درجات التطور عبر مختلف لحظات الصيرورة التاريخية. لهذا فإن "الحيوانية (l'animalité) إذا كانت معطاة، فإن الإنسانية (l'humanité) تصنع" وفق عملية تشاركية بين الأنا والآخر، فإذا كان الآخر مقصيا في الفلسفة الديكارتية التي زعمت الحقيقة لنفسها، فإن الفلسفات المعاصرة تجاوزت ذلك الطرح المجحف في حق الآخر الذي هُمش وشُرد وأصابه الجنون، وعُذب أو أُلحق به التعذيب الذاتي ووخز الضمير الذي يجعله من حين لآخر يشعر بأنه المذنب قد ارتكب خطيئة. يقول دولوز موضحا ذلك الشعور: "ينوب الإحساس بالخطأ مناب الإضطغان. فكما ظهر لنا الإضطغان، لا ينفصل عن دعوة مرعبة، عن تجربة كما عن إرادة نشر عدوى، إنه يخفي حقده خلف فأل حب مجرب: أنا الذي أتهمك، إنما أفعل ذلك لخيرك، أحبك، لكي تنضم إلي إلى حين تصبح أنت بالذات كائنا متوجعا، مريضا، إرتكاسيا، كائنا طيبا". وهذه هي غاية الثقافة الغربية، حيث أسست خطابا تتم وفقه فعالية النزعة الترابية بين الناس، بل إلى درجة خلق صراع نفسي بين الإنسان ونفسه، وهذا ما آلت إليه نتائج التطورات العلمية والتكنولوجية للعالم الغربي.
جامعة سيدي بلعباس


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)