الجزائر

الجَلفة... خَْيمَةُ الكرمِ المِعطاء



الجلفة
عَشِقتُها هوسًا محبوبتي جَلفا * محبوبتي والهوى فيها سمَا وصفا
جَلفا قصيدةُ حبِّي بوحُها سمرٌ * ينادِمُ الشّايَ والأغنامَ والعزْفا
وقهوةٌ فوق جمرٍ من لظى حطبٍ * تفوحُ في كلِّ فصلٍ تَنحَني لطفا
ما الشِّعرُ دون ربوعِ المجدِ في بلدي * فدون جَلفا يضيعُ الشِّعرُ بل يُنفى
جَلفا وترتعِدُ الأشعارُ في وجلٍ * ويصهلُ المجدُ مادًّا للسّما صفّا[1]
* * *
كانت الحافلة تجوبُ أحياءَ مدينة الجلفة، وكلما قاربَتْ إحدَى المحطّاتِ خفق قلبي خوفًا وحرجا، فأنا لم أألفْ بعد هذه المدينة، ولا أعرف شوارعَها وطرقاتِها، ولا أكاد أميِّز بين حيّ وآخر، لِذا فأنا في حيرة من أمري، متى يُمكِنني النّزول!؟
التفتَ السّائقُ إلى ثلّة الرّكاب الباقيّة وقال: المَحطّة الأخيرة!
وهنا وجدتُني مُضطرّة للهبوط، فهرولتُ نحو الباب، لأنزل وأتحرّك في الاتّجاه المقابل لي مباشرة، كان لديّ شعور بأنّني إن بقيتُ أتفرّس الشّوارع، فإنّ ذلك يشكّك المارّة في، ويكتشف بعضُ السّفهاء أمري، وكيف أنجو حينها !؟
إذًا؛ لم يكن أمامي إلّا أن أسير، وأحاول الانتباه جيِّدًا، لعلّي أعثر على أحد الشّوارع التي أعرفها، وبينما أنا كذلك في حيرتي وخوفي –ولم يَطلْ بي الحال- حتى خرجتُ مباشرة في أحد الأزقّة المألوفة لديّ، والتي تجاور جامع الجمعة الآن.
شعرتُ بالرّاحة وسَرَى الاطمئنان في نفسي، وتحرّكتُ بكل هدوء في اتّجاه داخليّة ابن عيّاد.
كان ذلك الحدثُ ممّا وقع معي أوائل التحاقي بثانويّة بلكحل، حين انقطعَتْ عنّي حافلةُ ابن عيّاد، ولم أكنْ قد تعرفتُ بعد على الزّميلات بهذه الثّانويّة.
* * *
مدينةُ الجلفة آنئذ -قياسًا بالمدن الكبرى - هي مدينة صغيرة، إذ أنّك تستطيع السّير من أقصى طرفٍ فيها إلى الطّرف الآخر، دون أن تشعر بكبيرِ إعياء أو تعب، وما أظنّ حافلة ابن عيّاد إلا أسلوبًا لبيئةٍ محافظة تبالغ في صون الفتاة –هذا بالطّبع مع الحرصِ على الانضباط واحترامِ الوقت- وإلا فما عساها تكون المسافة بين ابن عيّاد والنّعيم أو ابن عيّاد وبلحرش!
أمّا ثانوية بلكحل فقد كانت بعيدةً بعض الشيء.
والجلفة إلى ذلك هي مدينة حديثة النّشأة، مقارنة ببعض الدّوائر والبلديّات التّابعة لها، ك مسعد والإدريسيّة.
كانتْ في البدءِ مدينة أوروبيّة صغيرة، بُنِيَتْ منتصف القرن التّاسع عشر الميلادي، حيثُ عَمِلتْ فرنسا الاستعمارية على إنشاء برج عسكري سُمِّي بحصن الشّمال أو حامية كافاريلّلي، وذلك قصد كسرِ شوكة قبائل الجنوب، والتّصدِّي لشراسة قبائلِ المِنطقة، ومِن ثمَّ القضاء على الحركاتِ الثَّوريّة المناوِئة لها.
ولمّا تَمّ لفرنسا ما أرادتْ -أو لِنقُل شبه ما أرادتْ- وهادنتْ تلك القبائل، بنتْ جوار الحصنِ العيادة العسكريّة، أو عيادة الطبيب ريبو، وكذا الطّاحونة على طرف الوادي، والكنيسة التي لا تزال قائمة إلى اليوم، هذا بالإضافةِ إلى منشآتٍ أخرى؛ كمقرّ البلدية ومستوصف ودار البريد، ومدرستين بل ثلاث إحداهن للبناتِ، وبيوت الفرنسيِّين بحي المشتلة، ودار العدالة التي لم تكن عادلةً –في حق الجزائريين طبعا - لِتُحيط المدينة بسورٍ له أربعة أبواب معروفة إلى اليوم.
أجل، كانتْ مدينةً أوروبيّةً صغيرة وجميلة، بها حدائق ومنتزهات ونُزُل ومطاعم، لكنّ قيمة الجزائري فيها أحطُّ من قيمة الكِلاب، فهو إمّا أن يعيش خادما ذليلا لأسيادِه الأوروبيِّين، أو ينطلق في الصّحراء يسابق الرّيحَ ويُصارع الزّمن، لا تقيِّده قيودٌ ولا تحدّه حُدود.
وذاك ما كان عليه النايليُّ الحرُّ الشّريف.
إذًا كان التّماسُّ محتشمًا بين الطّرفين؛ الجزائري والفرنسي، والثّورات لا تكاد تهدأ حتى تشتعل من جديد.
ولمْ يكُن الجزائريُّ بمنأى عن كلِّ هذه الأحداث، ومنذ وضْعِ الحجرِ الأساسِ لحصن كافاريللي على يد الجنرال يوسف، فبنَاء هذه المنشآت كان قائمًا على سواعد جزائريّة.
إذْ أنّ بعضَ الأهالي كانوا قد استقرّوا قرب النّبع –خارج سورِ المدينة- لِمُمارَسة التّجارة مع العساكر، وبيعِ منتَجاتهم المحليّة بما في ذلك المواشي.
وكعادة فُضَلاء أرض الإسلام الجزائر، سارع هؤلاء إلى بناء مسجد -حي البرج حاليّا-، لأداء الصّلوات المفروضة في أوقاتِها، وزاويّة لتحفيظ القرآن الكريم وعلوم اللغة العربيّة.
ليُضيفوا مسجد سي بن دنيدينة فيما بعد.
والمسجد والزّاوية –في عُرفِنا- هما المقصد لِعابري السّبيل على اختلاف حاجاتِهم، كما أنّهما مكامِن انطلاق شرارة الثّوراتِ ضِد الاحتلال.
إنّه التّحدي وأيّ تحدٍ!
في وجه سلطاتٍ صليبيّة حاقدة، كانتْ قد جعلَتْ من المكان مِنطقة عسكريّة، يتوقف عندها خطّ السِّكّة الحديديّة، باعتبارِها بوابةً للصّحراء الجزائريّة الكُبرى.
فعمدتْ بِنزعتها الفاشية إلى بناء حصن جديد، أو ما يعرف ب معتقل عين اسرار، اتّخذتْ منه سجنًا ومنفى للمُبعَدين من فرنسا قصرًا وقد مرّ به الكثيرون من أمثال؛ الكاتب الإسباني ماكس أوب، وروجي جارودي، والرّسّام العالمي هيليوس غوميني وآخرون كثير.
ويعدّ هذا السّجن من أعْتى وأشدّ السّجون الاستعماريّة وحشيّة كما كان قد دوّن هؤلاء[2].
* * *
والجلفة هي مركز النّوائل وهُم فرسان نِزال ووغى، وأهل كرمٍ وشهامة، وتمتزج العناصر البشريّة فيها من عرب وبربر ورومان، وموريسكيِّين مِمّن رُحِّلوا قسرًا من الأندلس بعد السّقوط.
فأمّا أولاد نائل فيُنسَبون إلى الأدارسة، وهم أشراف حَسنيِّين -كما يرجِّح ذلك علماؤهم- وأمّا الرّومان فهم بقايا القلاع الرّومانيّة، وقد دخل هؤلاء الإسلام وامتزجوا بالنّاسِ، في حين حافظ البربر على وجودهم في المناطق الجبليّة المغلقة، ذات الطّابع الوعر، الصّعبة الاختراقِ.
وبالمِنطقة أيضا قبائل من أصول بني هلال الذين استُقدِموا زمن الفاطميين، وكذا أشراف العبازيز الذين هم من ذرية الحسين بن علي رضي الله عنهما.
ويظهرُ هذا الامتزاجُ جليًّا من تنوّعِ العاداتِ واللّهجات وحتى الصّفات الوراثيّة لسكان المِنطقة.
وكذا الرِّوايات الشّفويّة –التي يؤكِّد أهل الاختصاص- أنّها هي روح المكان، هي الظل، قد تفتقر إلى الدِّقة، لكنّها تملك التّفاصيل التي لا توجد بكتبِ التّاريخ.
والمَوروث الشعبي زاخرٌ بتمجيد هذه الأنساب، لذا فالنّاس هنا يعتزّون بأنسابهم، وهم يسألونك عن نسبِك في أوّل لقاء، وصدق ابن خلدون حين قال :«فلذلك كان عمران إفريقيا والمغرب كله أو أكثره بدويًّا.. والأنساب والعصبيّة أجنح إلى البدو»[3]
وقد تحالفتْ هذه العناصر جميعها، تحت لواء ومسمّى النّوائل، مشكّلةً قوّة كبيرة، لمجابهة العدوِّ المشترك، كلّما ظهر في الأفقِ من يُناوئُها أو يُعادِيها.
* * *
ومُسمّى أولاد نائل؛ هو عنوانٌ كبير للتآلف واللُّحمة، بين أبناء الأمّة الواحدة، ومِنه فساكِنة المِنطقة –على اتساعها- كلهم مُنضَوون تحت هذا المُسمّى الكريم: النّوائل.
ويَحلو لهؤلاءِ أن ينعتوا مدينتَهم الجلفة ب سَعد البرّاني، وذلك لِمَا يلقاه الغريبُ بينهم من الحفاوةِ والتّرحابِ، والإكرام المبالغ فيه أحيانا.
وقد لاحظتُ -عديد المرّات- حرائرَ النّوائل، وهُنّ يقاطِعْن حديثَ مَن تظن نفسَها غريبة بينهنّ، بقولهنّ: لَيْنَا.. لَيْنَا، بمعنى: أنتِ منّا.. أنتِ منّا، لِتبتسم هي الأخرى وقد احتويْنَها تمامًا، وغَمرْنها بدفء الانتماء.
لتَصدق مقولة: «مدينة الجلفة داخلها يَبكي، والخارج منها يَبكي أيضًا».
فالأوّل لِما قد يُصادِفه من غرابة في بعض السّلوكاتِ، والثّاني لأنّ ما يلقاه عند أهلها من الودِّ والتّرحابِ، يشعره أنّه بفراقِهم قد فارق الأهل والوطن !
والغريب أن تقرأ ذلك حتّى عند الكاتب الإسباني ماكس أوب في مذكراته عن الجلفة، حيث يقول: " الأمرُ الجميلُ الذي كان يُميِّز العرب أنّهم إذا تقبّلوك تقبّلوا كلَّ ما فيك"[4].
ولشدّة الكرم النّايلي تتنوّع مجالاته، وتكثر المصطلحات الدّالة عليه؛ ك: الزّردة، المعروف، لبسيسة، الطعم، اذواقة، الضِّيفة، قصعة المردود، اروينة.. !
وما ذاك إلا لصفاء النّفوس وتطلّعها إلى الكمال، فلله درُّكِ يا جلفا، ودرّ شاعركِ حين يقول:
هي الصّفاءُ الذي يجتاحُني أملا... وخيْمةُ الكرمِ المِعطاءِ ما جفّا[5]
* * *
ويشتغل النّاس هنا بخدمة الأرض، وتربيّة رؤوس الأغنام، وهم في الأصل بدوٌ رُحل، يجوبون الصّحاري والتّلال، بحثا عن الكلأ لِمواشيهم، لذلك تجدُهم أعرفَ النّاس بتضاريس الجزائر وأخلاق أهلِها.
وهم إلى ذلك أهلُ ثراءٍ وغنىً، فهم يربّون أيضا بقرَ الجاموس المعروف لديهم بالزّاموج، ويعتنون باقتناء الخيول، وكذا بامتلاك الجِمال والنّوق، التي كانوا يستعملونها في تنقّلِهم، فيما يعرف ب المَرْحُول.
ومبدأُهم دوما: «حيثما أومض البرقُ فثمّ موطني»، فوميضُ البَرقِ هو إيذانٌ بنزولِ المطر، وعنوانُ حياة الأرض وخصوبتِها.
وهم كثيرًا ما يغوصون في أعماقِ الصّحراءِ، حتى يشارفوا الحدودَ مع المغرب الشّقيق، ويَتنَقّلون إلى التّل حتى يصلوا السّاحل، وهذا ما أكسبهم خبرة في التّعامل وفنًّا في الكياسة واللّباقة، لذلك يَسود أخلاقهم التّسامح والعفو، والتّغافل أحيانا.
إلا إذا ما مُسّ العِرضُ ففيهم شراسة وجَهالة، على رأي الشّاعر القديم:
أَلَا لا يَجهلَنْ أحدٌ علينا... فنجهل فَوق جهلِ الجاهلينا.
* * *
أمّا مُثقفوا المِنطقة فهم نوعان؛ تقليدي أصيلٌ في ثقافتِه، وهم خرِّيجو الزّوايا المنتشرة بكثرة هنا، والتي يرتكز التّعليم فيها، على حفظِ القرآن الكريم، ومتون اللّغة العربيّة، وعلوم الشريعة على اختلافها.
ونوع فرنسي اللِّسان، متعمِّقٌ في ثقافة الآخر، وهم خرِّيجو المدارس الفرنسيّة، لكن الغريب أنّ الصّنف الأخير، هو أشدّ تعصّبا للإسلام من سابقِه، بالرّغم من الضبابيّة التي تكتنف الرؤيا لديه.
وقد أشار إلى ذلك القِس دي فيلاري، الذي قضى ردحًا من الزّمنِ بينهم، حيث أكّد أنّ هؤلاء القوم لن يتركوا دينَهم، فذاك – في نظره- يعدّ من المستحيلات.
فهل تراه انتبه إلى أنّ دور التّبشير -في الجزائر كَكل- كان مُقتصِرًا على رسمِ تلك الضبابيّة واللاّوضوح في التّصوّر الإسلامي... ربَما !؟
هوامش
[1] الشاعر علي قوادري
[2].. مع ملاحظة أن النّص روائي وليس نصّا تاريخيّا.. المراجع هي: الموروث الشعبي، الويكيبيديا، وموقع الجلفة انفو
[3] مقدمة ابن خلدون
[4] الجلفة انفو
[5] الشاعر علي قوادري


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)