الجزائر

«الجمهورية» مدرسة الأدباء .!



شكلت جريدة «الجمهورية» خلال العشرية الأولى لتعريبها منذ أن انطلق العام 1976 و منذ البداية، ودون سابق إنذار، ظاهرة ثقافية و إعلامية استثنائية في الحقل الثقافي والإعلامي الجزائري. ما في ذلك شك فالجمهورية تميزت في زمنها الأول الذي كانت تصدر فيه باللغة الفرنسية كمنبر إعلامي رصين و جاد يتم انتظاره من قبل عشرات الآلاف من القراء و بشغف، لم يكن ذلك الجيل الجميل لوالدي وأصدقائه من أساتذة ومحامين وقضاة الذين كانوا يقتنونها ويقرأونها قبل المجاهد وألجيري أكتواليتي، ويشربونها قبل قهوتهم، بل كان الكثيرون ينتظرونها في الغرب و الوسط و الشرق و الجنوب.لا شك فقد كانت الجمهورية تُنتظر بلهفة في أكشاك العاصمة، و تقرأ قبل بقية الجرائد، وليس بالغريب أن تتوارث الأجيال اللاحقة الاهتمام بها ومحبتها وانتظارها، وقبل أن تسألني:
- ما السر في ذلك؟!.
سأخبرك أن بين جنبات أروقة الجمهورية مرّ صحفيون كثر متميزون. أقلام إعلامية كبيرة بالفرنسية، كزواوي بن حمادي، و بشير رزوق، و محمد عباسة، و عبد القادر جمعي، و عبد الملك واسطي، وغيرهم وغيرهم .. أقلام مبهرة وجادة وواثقة، نسجت أجمل سنوات الإعلام الجزائري بمهنيتها العالية، وذكائها السياسي، و جرأتها الاجتماعية. و عند قرار تعريب الجمهورية، انتقلت هذه الأسماء الثقيلة إلى فضاءات إعلامية أخرى، و كان أمام الجيل الذي تولى التعريب تحد خطير، يتمثل في القدرة على صناعة منبر جديد بالعربية على آثار صرح كبير بالفرنسية، إلا أن التردد لم يطل، و بسرعة سيتولى الأمر جيل جديد، و بكثير من الجرأة، و أيضا بكثير من الحماس الصادق، إلى إعادة الجريدة إلى الواجهة الوطنية. و لكن المرة هذه ، وباللغة هذه ، لن يتمثل التميز عن طريق السياسة، أو التحليلات، و الروبورتاجات الاجتماعية، إنما يتحقق عن طريق الثقافة و الأدب. و لعل من الأولين الذين حملوا الجمهورية في القلب وعلى الأكتاف في عهدها الجديد بالعربية، و أعادوها إلى الواجهة الوطنية، هم الجامعيون ومؤسسة الجامعة بالأساس، حيث كانت جامعة السانيا (الوحيدة بوهران آنذاك)، من خلال أساتذتها و طلابها، من تولت الكتابة وبكثافة بأعمدة الجريدة، و بشكل طوعي و تطوعي. و لعل أيضا، ما ميز هذا الحضور الإعلامي الجامعي على أعمدة الجريدة هو ثنائية الصوت: صوت الأستاذ الجامعي إلى جانب صوت الطالب الجامعي (الأديب الصاعد). و منذ البداية، انطلقت نقاشات كثيرة و مهمة على المستوى الثقافي، سجلتها أعمدة الجمهورية، وإنها تُعَدّ بامتياز واحدة من صفحات تاريخ نشوء الحركة الأدبية و الثقافية في جزائر السبعينات. و بصدر رحب احتضنت الجمهورية هذه النقاشات، على حدتها أحيانا وعلى جرأتها أيضا بكثير من الحرية و الذكاء الإعلامي الثقافي، وجذبت إليها أقلاما عديدة. وقبل أن تسأل - ماالسرّ في ذلك ؟! ، أخبرك أن القسم الثقافي للجمهورية الذي كان يشرف عليها صحفيون شباب أكفاء، الإعلامي محمد بلعالية، ثم الروائي والإعلامي بوزيان بن عاشور (المدير العام الحالي للجريدة)، ثم الروائي أمين الزاوي، ثم ميموني عبد القادر الذي انتقل من قسم الأرشيف بالجريدة إلى هيئة التحرير. من أهم الأقسام بالجريدة، التي كانت تقرأ و تتابع بشكل لافت. و يذكر الجميع مثلما أذكر، أن الجمهورية لاحقا كرست العناية بالثقافة و المثقفين، كرهان لصناعة صوتها الإعلامي على المستوى الوطني، فبادرت بإصدار ملاحق أدبية كانت عبارة عن محطات أساسية في صناعة الشخصية الإعلامية ل«الجمهورية»، و بذلك تأسست تباعا ملاحق أدبية وفكرية ك «أوراق الخميس» التي كان يشرف عليها كل من الأديب والجامعي المرحوم عمار بلحسن و الجامعي المحامي حمزة الزاوي إلا أنها لم تعمر طويلا، ثم لاحقا ب «النادي الأدبي» الذي جاء بديلا «لأوراق الخميس»، و كان يشرف عليه كل من الإعلامي و الكاتب بلقاسم بن عبد الله و القاص والروائي الحبيب السائح، ثم لاحقا الأديبة أم سهام (عمارية بلال) بعد انسحاب الحبيب السائح، ولأن الجمهورية تخترق الأجيال فقد
اختفى النادي فترة ليعود للظهور ثانية بإشراف
الإعلامية عالية بوخاري، ثم لا أحد ينسى تجربة ملحق «الجمهورية الأسبوعية»، الذي أشرف عليه لسنوات الصحفي المتميز محمد نيار بمساعدة الشاعر الفيلسوف كريم بن يمينة. ولعل ما تميزت به هذه النقاشات في البداية، حول الشأن الثقافي أساسا، أنها حدثت ما بين الأساتذة و طلبتهم الذين كانوا مشاريع كتاب مبتدئين، فالذي يعود إلى أرشيف الجريدة سيقرأ سجالا وقع ما بين الأديب الدكتور عبد الملك مرتاض أستاذ الأجيال، و طالبه رويبي صالح قبل أن يصبح هذا الأخير لاحقا أحد الأسماء المهمة في الإعلام الثقافي بالجمهورية، كما سجل أرشيف الجمهورية أيضا نقاشات بين الدكتور عمار قدور إبراهيم العائد من القاهرة و الطالب أمين الزاوي حول مسألة المخطوطات و الذاكرة وسجلت أيضا نقاشات بين الدكتور ضيف الله أحد أهم أساتذة جامعة وهران، صاحب كتاب متميز عن الرافعي، و أحد الطلاب حول مقال كتبه الدكتور ضيف الله عن ظاهرة روائح المأكولات في رواية الزلزال للطاهر وطار. ثم لا أحد ينسى الحضور القوي لأسماء تأسست وأصبحت شخصيات ثقافية مثل الدكتور والناقد مخلوف عامر والقاص عمار يزلي والناقد المرحوم بختي بن عودة.
و قد استطاع هذا النقاش الثقافي بين الطلبة (مشاريع كتاب)، و أساتذتهم المكرسين، أن يجعل من جريدة الجمهورية منبرا للصوت الجامعي الثقافي بامتياز، ومنجما غنيا للمواهب الأدبية.فقد كان للجريدة شرف اكتشاف هذه الأسماء الجديدة و إعطائها الفضاء للكتابة و التمرس. و نظرا للصوت العالي الثقافي لجريدة الجمهورية الذي بدأ ككرة الثلج على المستوى الوطني، فقد التحق الكثير من الأساتذة بالكتابة فيها، الأمر الذي دفع بالحوار إلى الانتقال من مدرجات الجامعة إلى أعمدة الجريدة، فالتحق بالكتابة والنقاش فيها كل من الدكتور عبد الله بن حلي الذي كان مشروع شاعر متميز في بداياته بمجلة آمال ثم ناقدا أدبيا بلغة صافية عالية. و التحق أيضا و التحق أيضا بفريق الجامعيين الدكتور الأخضر بن عبد الله، الذي كان يتمتع بثقافة فرنكفونية عالية وبعربية منحوتة و مصقولة، و برأي حاد وجاد، و هو الذي بدأ شاعرا كذلك. و التحق من الأساتذة الجامعيين للكتابة في الجمهورية كل من الدكتور عبد الكريم بكري،و نجاح مبارك، و الناقد الدكتور عبد القادر فيدوح، و ناصر اسطنبولي، و يوسف داوود ... مع الأسف القليل جدا من قراء جريدة الجمهورية اليوم، من يتذكر أسماء ساهمت في الإقلاع الثقافي للجمهورية من الشباب، بعضهم أكلته السياسة، و بعضهم الآخر اختفى من المشهد، من يذكر الشاعرة خديجة صديقي (التي ستصبح زوجة رئيس الجمهورية الصحراوي المرحوم محمد عبد العزيز)، و التي كانت طالبة في قسم اللغة العربية بوهران، و أسماء أخرى كجميلة هواري، و خديجة زعتر، و بلقاسم زناتي، و عبد القادر الطيبي، و مصطفى هميسي، و غيرهم الكثير.. ما أريد تأكيده أنه إذا كان رهان النجاح لدى كثير من المنابر الإعلامية الوطنية و العربية قد قام على السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع، فجريدة الجمهورية اختارت طريق الثقافة لتكون صوتا متميزا، و هو بالفعل ما جعلها باكرا ومنذ زمن بعيد تستقطب كتابا كبارا في نقاشاتها من أمثال رشيد بوجدرة، و أدونيس، أبو القاسم سعد الله، و أحمد حمدي، و عبد الله حمادي، و زهور ونيسي، و محمد زتيلي، و محمد بنيس، و غيرهم كثير. هي هكذا هذه الجمهورية.. إنها منجم الأدباء مدرستهم والصدر الحنون عليهم.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)